
كتاب للكاتب المصري رجاء النقاش الذي ارتحل عن عالمنا منذ عقدين من زمان، كان له حضور حافل في حياتنا الثقافية. جمعت فيه زوجته هانية عمر ستا وعشرين مقالة لم يسبق نشرها في كتاب، يربط بينها أنها تدور حول فلسطين والفلسطينيين. المقالات طويلة شديدة العذوبة، مقالات أدبية نكهتها السياسة، أو مقالات سياسية زينتها ريشة الأديب، ولذا لا يستطيع قارئ تعود على لغة السياسة الصحفية أن يمر على فقراته بسرعة، فالعبارات تستمهل قارئها ليستمتع بتذوقها رغم أن موضوعاتها تثير الأسى، ولكنه الفن يرسم المأساة فيحرق الفؤاد ويفتن القلب المجروح بجمال الريشة وتناسق الألوان وثراء الأحاسيس، يتحقق في الكتاب ما قاله الشاعر صلاح عبد الصبور عن رجاء “يحمل رجاء في قلبه الفجيعة دائما ولكنه لا يبقى ولا يعلن بطلان الكل، ولا يخاف، إن الفجيعة في قلبه تصبح حياة ومحبة وشهوة لإصلاح العالم”. أخذ الكتاب عنوانه من المقالة الأولى، ولكن رجاء اختار له عنوانا فرعيا (أوراق فلسطينية في الأدب والسياسة والفن)، كتبت بين عامي ١٩٩١ - ٢٠٠١، بمعنى أن رجاء كتبها في أواخر أيامه، وإني لأعجب من حرارة مشاعره نحو فلسطين، تلك الحرارة التي توارت بالتدريج منذ حرب أكتوبر بعد أن كادت فلسطين تختفي في دهاليز السياسة، المقالة الأولى تتلوها مقالتان إحداهما عن الغزال الجريح ويقصد الشيخ عزالدين القسام، ثم مقال بعنوان “في يوم جميل من أيام الربيع” عن مذبحة دير ياسين التي كانت إبادة مبكرة تضخمت حتى أصبحت من أضخم الإبادات الجماعية في التاريخ، أقصد إبادة غزة في أيامنا. في العاشر من أبريل عام ١٩٤٨ دخلت قوة عسكرية صهيونية فيها آلاف الجنود قرية عربية فيها أربعمئة نسمة، نسفوا البيوت بيتا بيتا، كانوا يدخلون البيت فيواجهون من يدافع عن نفسه وأسرته بالرصاص، ثم ينسفون البيت على من تبقى فيه، وكانوا يعلنون عبر مكبرات الصوت (يا أهالي دير ياسين، إنكم تواجهون قوة أكبر منكم بكثير، أخرجوا من بيوتكم واهربوا) صدق البعض، كل من خرج من باب بيته قًتل بالرصاص، تمكن أربعون فقط من الهرب أما الباقون فقد دفنوا في مقبرة جماعية، لم يجد ممثل الصليب الأحمر الذي جاء ليبحث عن أحياء بين الركام إلا طفلة صغيرة وعجوزين، وسمع القائد اليهودي يقول متباهيا” كان ذلك اليوم يوما جميلا من أيام الربيع، وكانت أشجار اللوز قد اكتمل تفتح زهورها” يتابع ممثل الصليب الأحمر( لم يساعدني أحد، بل رفضوا تحمل المسئولية عن سلامتي، جميع أفراد الفرقة الصهيونية مدججون بالسلاح، شباب وفتيات ملطخون بالدم وفي أياديهم خناجرهم الكبيرة، اقتربت مني فتاة يهودية جميلة تقطر أياديها بالدم، تحرك أياديها بفخر واعتزاز، كأنهما ميدالية أو نيشان من الذهب الخالص) . ثم يكتب رجاء أربع مقالات عن الشاعرة فدوي طوقان، معلقا في اثنين من كل منها على مذكراتها التي صدرت في جزأين، الأول “ رحلة جبلية.. رحلة صعبة” ويصفه الكاتب بأنه أجمل مذكرات نسائية عربية، والجزء الثاني “ الرحلة الأصعب” الذي كتب عنه فصلين أحدهما عنوانه “شاعرة تأكل لحوم البشر”، وثانيهما “ شاعرة متهمة بالوحشية” والوصفان هما ما أطلقه الصهاينة على الشاعرة فدوى طوقان. أرادت الشاعرة أن تخرج من نابلس إلى الأردن لزيارة أختها، وهنا على الفلسطيني أن يقضي ساعات من الاضطهاد بينما ينتقل على الجسر القائم على نهر الأردن من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، يسميه الصهاينة جسر اللنبي، واللنبي هو القائد البريطاني الصهيوني الذي قاد احتلال فلسطين عام ١٩١٧، أخرج منها العثمانيين، وكان جيشه في معظمه من العرب الذين جيشهم الشريف حسين ليحاربوا مع الإنجليز حتى يعطوه الخلافة مكان العثمانيين، أما الجانب الأردني فيسميه جسر الملك حسين، وصفت فدوى مشاعرها أمام هذا الإذلال، إذ يتزاحم الناس بينما يتحرك جمعهم ببطء إلى شباك التصاريح، الجنود الصهاينة يشتمون ويضربون، جندي يدفعها بقبضته حتى تكاد تسقط على الأرض لو لم يتداركها الناس، “ يصرخ الغضروف المنزلق في سلسلة ظهرها، وشمس شهر أغسطس تحرق الجباه وتغلق الصدور، سبع ساعات على هذا الحال، كأنما قُصت أجنحة الوقت، وكُسحت أقدام الظهيرة، يسقط العرق ملحا على الجفون”، تذكرت فدوى أشعار الشاعر الصهيوني مناحيم بيالك يخاطب عدوه الروماني” لقد جعلتمونا حيوانات مفترسة، وبقساوة وغضب، سوف نشرب دماءكم، ولا نرحمكم، إذا انتفض كل الشعب، وقام يقول الانتقام “، ساعتها بدأت قصيدتها (آهات على شباك التصاريح) ترتسم أبياتا في ذهنها، تذكر القصيدة كيف يستفزها الجندي الصهيوني “عرب… فوضى… كلاب” … “ مرغ الجلاد جرحى في التراب” “آه يا ذل الإسار” وتمضي القصيدة حتى تقول “جوعٌ حقدي.. فاغرٌ فاه.. سوى أكبادهم لا يشبع الجوع الذي استوطن جلدي”، وانتشر خبر القصيدة بين الصهاينة، وبدأت فدوى تتلقى رسائل تهديد، بعضها يقول… يا آكلة الأكباد… مثل جدتك هند بنت عتبة (التي لاكت كبد حمزة عم رسول الله يوم أحد) وتناقل الصهاينة نكتة تقول: إذا ذهبت إلى مطعم أطلب طبق فدوى طوقان يقصد صحن كبدة. تقول فدوى إنها لم تفعل سوى أنها استوحت الصورة من شاعرهم اليهودي. خص رجاء أربع مقالات للشاعر الفلسطيني أبو سلمى الذي عرفه عن قرب في مهجره الدمشقي، أبو سلمى هو الشاعر عبد الكريم الكرمي، هاجر جده الرابع إلى طولكرم قادما من مصر التي كانت محطته الأولى بعد خروج أسرتهم من اليمن، ليس لأبى سلمى بنت تحمل هذا الاسم، وإنما كانت قصيدته الأولى تخاطب محبوبة اسمها سلمى، فعُرف بها مثله مثل الشعراء العذريين… جميل بثينة وكثير عزة، خاصة وأن شعره كان شديد الشبه بأشعارهم، ولكنه بعد ارتحاله عن فلسطين خصص كل أشعاره للوطن، وله قصيدة بعنوان “لهب القصيد” انتشرت بين الناس ولكنها أدت إلى منع دخوله ودخول أشعاره إلى أغلب الدول العربية، ولذا فقد قضى العمر منعزلا: “أنشر على لهب القصيدِ …شكوى العبيد إلى العبيد.. شكوى يرددها الزمان…غداً إلى الأبد الأبيد” عاش أبو سلمى متواضعا راضيا بعزلته، لا يدور في فلك زعيم أو حزب أو سياسة. كان يدرك أن شعره يخلق بعض الأزمات ولكنه آثر الصدق. يجدر بكل مقالة أن تعرض هنا، خاصة أن نسيجها البارع يأخذك فيه رجاء من الروايات العالمية الأدبية إلى التجربة الإنسانية إلى الميدان الفلسطيني، يؤلف من ذلك وحدة موضوعية نتعرف من خلالها على عائلة المجانين التي كان هرتزل أحد أبنائها، كما نتعرف على السفاح شارون وعالمه الحافل بالجريمة، ثم نقرأ دفاع رجاء المجيد عن العمليات الاستشهادية واستنكاره وصفها بـ الانتحارية مدللا بالتاريخ الإسلامي والإنساني، كما يستعرض حياة وأشعار الشاعرين محمود درويش وإبراهيم طوقان في ست مقالات ضافية تقدم لكل منهما سيرة شعرية وإنسانية بالغة العذوبة والشجن. ويكتب قائلا إذا كان المصريون قد حموا أنفسهم من الأهوال الكارثية التي تعرضوا لها بالنكتة ونهر النيل فإن الفلسطينيين يحمون أنفسهم بالشهداء وبالشعراء. هل تعرفون حياة بلابسى؟ هل قرأ الفنانون الموهوبون في الكتابة للمسرح والسينما شيئا عن هذه المرأة المجهولة؟ يجيب رجاء على سؤاله: أظن أنهم لم يقرأوا عنها شيئا، لأنهم لو قرأوا شيئا عن قصتها الأليمة الرائعة لانفجرت مواهبهم بالفن الغزير. عرف رجاء عنها من مقال كتبه “ نجاتي صدقي”، وهنا يعرفنا رجاء بهذا الأديب المقدسي الذي كان أول عربي يترجم عن الأدب الروسي مباشرة، وله كتاب عن تشيخوف وآخر عن تولستوي. وقد نشر الكتابان في سلسلة اقرأ التي تصدر عن دار المعارف في مصر. عثر رجال الهلال الأحمر على جثة فتاة في ثياب النوم ملقاة على إحدى الطرقات الفرعية المؤدية إلى قرية دير ياسين في اليوم الثاني للمذبحة، وسرعان ما تعرفوا على القتيلة، إنها المعلمة حياة البلابسى. يروى الأستاذ نجاتي كيف دخلت حياة مكتبه في إذاعة القدس في يوم ثلجي من أيام يناير ، طلبت التوسط لها كي تعمل مدرسة إضافية، إذ توفي أبوها وترك لها أما كسيحة وأختا صغيرة غير قادرة على العمل، وأصبحت حياة هي عائلهما، لم يترك الأب مالا أو عقارا ، لم تكمل حياة المرحلة الثانوية فليس أمامها إلا أن تدخل سوق العمل، دائرة المعارف في القدس لم يكن لديها شواغر إلا في قرية دير ياسين التي تبعد عشرة أكيال عن القدس، ستتقاضى ثمانية جنيهات في الشهر، لم يكن هناك خيار، توجب على حياة أن تمضي يوميا في طريق الآلام ذاهبة آيبة من القدس إلى دير ياسين، تبدأ رحلتها في السادسة صباحا حتى تصل مدرستها في الثامنة، الطريق جبلي وعر قد تمر فيه ببعض الرعاة والمزارعين، وعلى جانبيه أربع مستوطنات للصهاينة. تحس بالرعب فتقف علها تجد مرافقا من الرعاة، ولكنها مع الوقت تجاوزت هذه المرحلة وأصبحت تمضي بلا خوف، عملت في المدرسة كما تدربت على التمريض وكانت تمارس عملها بزيارة المرضى في بيوتهم، فتعطيهم الأدوية وتعتنى بجراحهم… وقد تضطر إلى مرافقتهم للعلاج في مستشفيات القدس، أصبح راتبها عشرة جنيهات. وفي تلك الأثناء ماتت أمها فانتقلت لتعيش في القرية، وحيث لم يكن في القرية غرفا تؤجر، فقد سُمح لها أن تبيت في المدرسة، وحيث لم يكن لديها ما تشتري به معطفا، فإنها تلتف باللحاف، سواء أكانت مستيقظة تعد الدروس أم نائمة تهادن الكوابيس. أصبحت حياة الأكثر شعبية في القرية، وحين تفاقمت أخطار الصهاينة استطاعت أن تجمع عددا من شباب وبنات القرية تعلموا استعمال السلاح، وأصبحت معهم تتناوب على الحراسة في الليل، لم يكن السلاح يكفي الجميع ولكنهم يتناوبون على حمله. في ليلة الكارثة استطاعت حياة أن تنتقل إلى مكان آمن خارج القرية، وكانت ما تزال بثياب النوم، وكادت أن تتوجه إلى إحدى القرى المجاورة، لكنها سمعت أنينا في الظلام، بحثت حتى وجدت جريحين، قطعت جزءا من قميص النوم الذي ترتديه لتوقف به نزيف أحدهما، ثم حملته لتنتقل به إلى أي مركز للهلال الأحمر، على أن تعود للآخر، سارت بحملها عشرة أمتار عندما أُطلقت عليها وعلى جريحها زخات الرصاص، فقُتلا على الفور، بينما استبقى الله الجريح الآخر ليروي الحكاية. انتصر السلاح الرخيص على فتاة تحمل جريحا، فتاة ما زالت بقميص النوم. مقابل كل شهيد نبيل يرمز للطهارة والسمو قاتل رخيص يمثل الحياة في قبحها ووضاعتها. من المنتصر، ومن المهزوم؟ قرية دير ياسين تحولت إلى مستعمرة رفات شاؤول، وما زالت حكاية حياة حياةً تُروى وتعاد. وما زالت حياة تقتل يوميا في كل شبر من فلسطين.