
الموسيقى واحدة من أكثر أسرار الكون غموضاً وجمالاً، وتكمن روعتها في كونها تهبط من الأعلى لتجد طريقها إلى أعمق نقطة في التكوين الإنساني دون أن نمتلك لهذا الشعور أي تفسير، والكثير من الآلات الموسيقية هي أدوات لذات الصوت القادم من البعيد، وآلة الكمان واحدة من أكثر الآلات التي تجسد البكاء والشجن. لا يعرف بالضبط متى اخترعت آلة الكمان بهذا الشكل الذي هي عليه الآن؟ لكنها دون شك تطورت من آلات وترية سابقة في حضارات مختلفة، حتى أصبحت بهذا الشكل الذي سجلت بأول ظهور عليه في القرن السادس عشر تقريباً في إيطاليا، وما يميز الكمان عن غيره من الآلات الموسيقية هو قدرته على محاكاة الشجن الإنساني، كما أن له مدىً صوتياً واسعاً من النغمات العميقة إلى الحادة، والكمان آلة أساسية في الموسيقى الغربية ويعزف كصولو مستقل. أدخل الكمان بشكله الحالي على الموسيقى العربية في أواخر القرن التاسع عشر، على يد العازف “أنطوان الشوّا” والد “سامي الشوّا” المعروف بـ”سلطان الكمان”، ومن أشهر وأهم مؤلفي الموسيقى وعازفي الكمان العازف المصري “عبده داغر” والذي يُعد أحد أبرز عازفي الكمان الذين تركوا بصمة لا تُنسى، بفضل أسلوبه الفريد وقدرته الخارقة على الارتجال، عُرف بـ”ساحر الكمان” لما يتمتع به من حساسية نغمية فائقة، جعلته أحد أهم الموسيقيين المصريين في القرن العشرين. وُلد داغر في 6 يناير 1936 في مدينة طنطا عام 1936، نشأ في بيئة بسيطة، لكنها غنية بالفنون الشعبية، حيث كان والده مُحباً للموسيقى وصاحب محل لصناعة وبيع الأعواد، مما أثر في مسيرته، اكتشف موهبته في سن مبكرة، حيث بدأ العزف على آلة “الكمان” وهو في التاسعة من عمره، تلقى تعليمه الموسيقي الأول في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية _المعهد العالي للموسيقى العربية حالياً_ تأثر بأسلوب عازفي الكمان العظماء مثل “أحمد الحفناوي” و”سامي الشوا”، و في الخمسينيات انضم عبده داغر إلى فرقة أم كلثوم الموسيقية، حيث أصبح عازف الكمان الأول، وساهم في تسجيلاتها الخالدة مثل: (الأطلال وأنت عمري وليلة حب) وكان وجوده مع “أم كلثوم” نقطة تحول في حياته، حيث اكتسب شهرة واسعة واحتراماً كبيراً في الوسط الفني، لم يقتصر تعاون داغر على كوكب الشرق فقط، بل عزف مع عمالقة الطرب العربي، منهم: “عبد الحليم حافظ” و”محمد عبد الوهاب” الذي شارك في تلحين وتوزيع بعض أعماله، وإلى جانب كونه عازفاً بارعاً، ألّف عبده داغر العديد من المقطوعات الموسيقية، منها: “ليالي الشرق” وهي مقطوعة تجمع بين الكلاسيكية والطابع الشرقي، و”ذكريات” وهي معزوفة كمان شهيرة تعبر عن الحنين، اشتهر داغر بـ تقاسيمه الارتجالية التي تظهر براعته في التنقل بين المقامات الشرقية بسلاسة، مثل: مقام البياتي ومقام الراست والنهاوند، كما يتميز بالحس العاطفي العميق، وكان يعزف بمشاعر جياشة تجعل المستمع يعيش اللحظة، وعلى الرغم من اعتماده على الارتجال، إلا أنه كان يلتزم بقواعد المقام بدقة، ويمزج ما بين الأصالة والحداثة، مستخدماً تقنيات غربية في العزف على الكمان الشرقي ليصبح مرجعاً للعازفين الشباب مثل “أحمد المنيسي” و”محمود سرور”، درّس العزف في معاهد موسيقية، وساهم في إعداد جيل جديد من الموسيقيين، كما حصل عبده داغر على العديد من الجوائز، منها وسام الفنون والعلوم من مصر، كما منح دكتوراة فخرية من جامعة جنيف ونصب له تمثال في ألمانيا بحديقة الخالدين بجوار بتهوفن وموتسارت. رحل “عبده داغر” في 6 فبراير 2020، لكن موسيقاه ما زالت حية في أذن كل محب للفن الأصيل، كان أكثر من مجرد عازف؛ كان فيلسوف الكمان الذي حوّل النغم إلى كلام، والموسيقى إلى حكايات، كما كان يقول دائماً “الكمان ليس آلة.. إنه روح تعزف على أوتار القلب”.