
في مهرجان أفلام السعودية، حملت النسختان الأخيرتان – الدورة العاشرة لعام 2024، والحادية عشرة لعام 2025 – ملامح التحول الحقيقي نحو النضج السينمائي. لم تعد المشاركات مجرّد محاولات شبابية أو تجارب أولى، بل غدت الأفلام تحمل توقيع أسماء اكتسبت لغة سينمائية، وتمكنت من أدواتها، وامتلكت الجرأة الكافية لتحكي، لا عن التقاليد أو العادات فقط، بل عن الإنسان في ضعفه، ووحدته، وحلمه، وهشاشته. لقد تجاوزت هذه الأفلام فكرة أن السينما المحلية لا تزال في طور التكوين، وبدلاً من اللهاث خلف إبهار بصري أو استعراض تقني، اتجهت إلى الداخل، إلى مساحة أكثر حميمية، حيث تكفي نظرة صامتة بين شخصين، أو لقطة لظل على جدار، كي تقول ما تعجز عنه الحوارات. لم يكن هناك ادعاء، بل حرص صادق على أن تُروى الحكاية كما يشعر بها أصحابها، لا كما يتوقعها الآخرون. ثمانية أفلام روائية طويلة في 2025، وعشرة في 2024، نصفها تقريبًا بأزمنة تتراوح ما بين الساعة والنصف والساعتين، جميعها جاءت لتثبت فتح الأبواب على الإبداع، بعضها يفضي إلى ذاكرة شخصية، وبعضها إلى عزلة داخل غرفة، أو إلى خوف من مجتمع، أو حتى إلى علاقة صامتة مع طفل، أو مع الذات. فيلم مثل هوبال لم يكن عرضًا لصحراء سعودية فحسب، بل كان تأملًا في عزلة عائلة تحاصرها القوانين الصارمة، والمرض، والقلق، حيث بدت الفتاة المريضة رمزًا لكل ما يُخشى عليه، وكل ما يُحب بصمت. وفيلم بين الرمال، الذي عرض في الدورة السابقة، فقد سار في مسار مشابه من حيث البساطة، لكنه اختار أن يصنع توتره من أقل القليل، رجل وراحلته، في مواجهة قاسية مع الطبيعة، ومع نفسه. وفي فيلم مثل ثقوب، بدا أن السينما السعودية قادرة على طرق أبواب التوتر النفسي والغموض دون أن تفقد ملامحها المحلية، بل تُبقي جذورها واضحة، حتى لو اختارت قالبًا عالميًا للسرد. لم يكن المهم في هذه التجارب أن تكون مثالية، أو أن تخلو من الارتباك، بل أن تشعر وأنت تشاهدها أن من صنعها كان يؤمن بما يعمل، وكان يحاول أن يقول شيئًا يعنيه حقًا، ولو لم يُقل من قبل. وربما هنا تكمن قوة هذه المرحلة من تاريخ السينما السعودية، لا أحد يدّعي أنه وصل، لكن الجميع يمشي باتجاه واضح، ويدرك أن الطريق طويل، لكنه يستحق كل هذا العناء. في هاتين الدورتين، بدا أن الأفلام الروائية الطويلة لم تعد مجرد حلم مستحيل، بل أصبحت واقعًا فنيًا يزداد حضورًا عامًا بعد عام، وأن فكرة صناعة فيلم يمتد لأكثر من ساعة ونصف لم تعد مسألة استثنائية، بل ممارسة مألوفة لمخرجين لا يسعون فقط لأن يصنعوا فيلمًا، بل لأن يقولوا شيئًا عن الإنسان، عن حياته حين تضيق، وحين تتسع، وحين يبقى معلقًا بين خوف قديم ورجاء لم يولد بعد. هكذا، ومن دون ضجيج، استطاع المهرجان أن يحتضن هذه التجارب، وأن يمنحها منصة، لا لتعرض فقط، بل لتصغى، وتفهم، وتُمنح ما تستحقه من اهتمام. ليس لأن كل فيلم كان مكتملًا، بل لأن كل فيلم كان صادقًا، وكان ينتمي إلى لحظة إنسانية صافية، لا تطلب التصفيق، بل الاكتمال. وتهانينا للفائزين.