قراءة في رواية إبراهيم مضواح الألمعي الجديدة (فراغ مكتظ) مقاربة حجاجية..

الآليات والأساليب واستراتيجيات الإيثوس والباتوس واللوغوس.

رواية ذات طابع فكريّ نفسيّ حجاجيّ حواريّ؛ فهي تقارب الواقع الثقافي من زاوية أيديولوجيّة غير منبتّة الصلة بالواقع الاجتماعي والنفسي، ولعلي أستطيع أن أوجز الخطوط العريضة لوقائعها، وهو أمر غير مستحسن في المقاربات النقدية لأنه يغفل البعد الجمالي الذي يُعوّل عليه في الدرجة الأولى، ولكن مثل هذا النوع من الرواية الذي تنهض ثيمته الرئيسة على الحوار الفكريّ في الدرجة الأولى ربما كان ذلك مشروعاً على نحو ما ؛ فالرواية تشير إلى طابعها الفكري لثقافي منذ الصفحة الأولى التي خصّصها الكاتب لمقتبس قصير ممهور باسم (جون ستيوارت ميل) فيلسوف يريطاني عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، وهو “في المجادلات الثقافية غالبا ما يكون كلا الطرفين محقّاً فيما يؤكده ومخطئاً فيما ينفيه”. هذه العبارة الاستهلاليّة تشير بشكل واضح إلى طبيعة هذه الرواية، فالحجاج قوة خطاب ضمنيّة تحضر في مجمل العمل؛ وثمة من يرى أن الحجاج لا يكون إلا في (الرواية الأطروحة)، ولكن تجلّيات الحجاج في الخطاب الروائي تتبدّى في مختلف مكوّنات الرواية، في آليات السّرد جملةً وفي الأساليب اللغوية تفصيلاً كما هو معروف، فالآليات تتمثّل في السرد ووسائطه في التواصل، أما الأساليب االلغوية فهي في الأدوات الخطابية وخصائصها النحوية و البلاغيّة؛ ووظيفة الحجاج تغيير المعتفدات أو ترسيخها أو تغييرها، وربما يتبادر إلى الذهن سؤال: ما علاقة الخطاب التخييلي - وهو صلب العملبة الإبداعية في الرواية – بمنطقيّة الخطاب الحجاجي وواقعيته؟ وهل يمكن للرواية أن تنهض بمهمة الحجاج الأساس في تغيير المعتقد أو ترسيخه، وهناك من يجيب بأمثلة واقعيّة تؤكّد هذا المنحى؛ إذ تعرّض كثير من الروائيين للقتل أو المضايقة بسبب ما جاء في رواياتهم، مثل غسان كنفاني مثلاً الذي اغتالته الصهيونيّة بسبب خطورة ما جاء في رواياته، ويشيرون إلى أثر رواية (الأم) لمكسيم جوركي في حشد الطاقات الشعبية وراء الحركة الاشتراكية. تدور الرواية حول مناظرة تلفزيونية بين الشيخ نبهان الذي يمثل تياراً إسلامياً، قوامه استثمار الدين في الكسب المادي ممثلاً في القيام بالرقية الشرعية للمرضى والاستمتاع بالزواج من أكثر من امرأة نشدانا للمتعة واستقطاب الأتباع للترويج له، والدكتور علّام الذي يمثل تياراً ليبرالياً متحرّرا لا يقل انحرافاً عن نظيره الآخر الإسلامي في طلب المتعة عبر عشيقة من وراء ظهر زوجته التي اقترن بها لأنها كانت ابنة أستاذه المشرف، وكان ينوي الاستمتاع بها في غربته؛ ولكنها أرغمته على الزواج ففعل كارهاً، ليثبت أن كلا التيارين انتهازي يبحث عن مصلحته الخاصة: الأول الإسلامي بدعوى التقوى، والثاني الليبرالي بزعم التنوير، وقد بدا واضحاً أن الكاتب استثمر آليات حجاجيّة عبر آليات السرد وتنامي الحدث وسلوك الشخصيات وانعطاف الوقائع والحوارات التي دارت بينهم و بين أتباعهم وتصرفاتهم مع ذويهم، والمقارنة بين الوسائل التي اتّبعها كل منهم في الترويج لأفكاره، ودقة وتنظيم أتباع الشيخ نبهان الذين كانوا أشبه بخلية النحل في التحضير للمناظرة، وتوزيع المهام فيما بينهم لضمان إنجاحها من خلال جمع المعلومات عن الخصم و تتبّع سقطاته في تصريحاته وبرامجه ونشاطاته الصحفيّة والأكاديميّة، وكذلك أتباع الدكتور علام وسلوكه البوهيمي وفوضويّته وانشغاله بشهواته تحت مظلّة الحرية الشخصية . لقد استثمر الكاتب استراتيجيات الحجاج الثلاث المعروفة (الإيتوس، والباتوس، واللوغوس) من أجل تحقيق الإقناع: الأولى استراتيجية الكشف عن أخلاق الشخصية للكشف عن حقيقتها، وهو ما يطلق عليه في التراث الإغريقي (الإيثوس) وتقوم على الكشف عن أخلاق الشخصية للإقناع بصلاح معتقده أو فساده عبر الخطاب الخاص بها، وهذا واضح في استثمار الشيخ نبهان لموضوع الرُّقية الشرعية و تعدد الزوجات و مداهنة الزوجة الأولى واستغلال الزوجة الثانية في رقية النساء، وكذلك فيما يتعلق بالدكتورعلّام الذي تبدّى رجلاً بوهيميّاً انتهازياً يغتنم الفرص ويسعى وراء الملذات؛ وإذا كان الشيخ نبهان يستغل الدين من خلال الرُّقية الشرعية، وطقوسه شبه السحريّة، فإن علام يستغل شعارات الحرية والعلمنة، وقد تبدّى ذلك كله في مراوغته لهزاع مقدّم البرنامج في الفضائية التي يعمل فيها، ومساومته لهزاع حول المكافأة المطلوبة لقاء موافقته على الاشتراك في المناظرة؛ وكذلك الأمر بالنسبة للشيخ نبهان الذي بعث سكرتيره للتفاوض حول المبلغ المطلوب؛ فبدا الطرفان متورطين في شرك الانتهازيّة الشعارتيّة؛ بالإضافة إلى أن الشيخ نبهان كان غير معتدٍّ بالفضائية التي سيظهر عليها؛ ولكنه أمام إغراء المال تنازل عن مبادئه. أما بقية الشخصيات الثانوية المحيطة بهذين القطبين؛ فقد صوّرهما الكاتب فأظهر انضباط الفئة الأولى المحيطة بالشيخ نبهان المطيعة لأوامره، الساعية بين يديه و مؤازرته من خلال جمع المعلومات المتّصلة بعلّام لإنجاحه في المناظرة. ولعل الشخصية الرئيسة التي تتسيّد الأحداث وتعمل على إدارة المناظرة لا تقل انتهازيّةً عن الشخصيتين الأخريين (نبهان وعلاّم) وهو هزّاع الذي لا يبالي بمستقبل المحطّة الإعلاميّة التي يعمل فيها؛ ويتمنى أن يُحدث بمناظرته بين القطبين المتضادين ضجةً تودي بمدير المحطة وتجعله موضع الأنظار والاهتمام، فيحتال عليه مُمنّياً إياه بما ستجلبه هذه المناظرة من المُعلنين فيزيد الدّخل ويغري نبهان وعلّام بالمال، ولعله يعلل ذلك كله بما قاساه وأشقاه في ماضي حياته وراكم لديه هذه العقد النفسيّة التي دفعته لهذا السلوك، الأمر الذي استدعى أن يراجع طبيباً نفسيّاً وصفه له علام، وكان يلجأ إلى المذكرات ليفرغ فيها ما احتشد من ذكريات ماضيه ودفعه إلى هذا السلوك، وقد لجأ الكاتب إلى تمييز هذه المذكرات بالبنط الغامق، وعمل على النبش في تاريخه متلمّساً التضاريس النفسية التي تكوّنت بفعل عوامل تربويّة وبيئيّة واجتماعيّة وعاطفيّة تمثّلت في ما انطوى عليه الفضاء المكاني من عناصر الكآبة، فالقرية (الحزناء) دلالة على الحزن، والأم تلقب بالنملة (دلالة على الاحتقار) والأب شديد القسوة، والمجتمع الذي لا يرحم فيلقّبه بابن النملة، ومعشوقته (حليمة) التي تحتقره فتسميه (ابن النملة) وتزوَرّ عنه إلى أحضان رجل أضحى سجيناً للمخدّرات؛ الأمر الذي انتهى به إلى الاستسلام لنوبات البكاء والوقوع في أسر (الانطواء و الكمون وأقراص الزناكس) واللواذ بمقهى (النور) لتدخين المعسّل، وهو مكان مغلق معزول يكافئ الحالة النفسية التي يعاني منها، لذا لجأ الكاتب في رسم ملامح شخصيته إلى وسيلتين اثنتين: حديث النّفس؛ فحين ذكّره علاّم بما قدمه له لجأ إلى التعقيب على مادار بينهما من حوار بالحديث إلى نفسه مخاطباً علام مذكّراً إياه بأنه عمل على تلميعه والدعاية له، ومتوعّداً إياه بأن يعرّفه حدوده بعد أن تنتهي المناظرة) وفي إطار منطق (الإيثوس) في المعادلة الحجاجية يكشف عن أخلاق الطرفين اللذين ينتميان إلى التيار الليبرالي (علام وهزاع)، ثمة َنمذَجة لأركان هذا التيار تكشف عن عيوبهم ونفاق التيار الذي ينتمون إليه، وقد وظّف ما يمكن أن يكون لوناً من ألوان التناص في إطار حديث النفس ممثلاً في ترديده لأغنية (إن كنت ناسي أفكّرك)، أما الوسيلة الثانية فهي اللجوء إلى كتابة المذكّرات؛ فهو يلوذ بها كلّما واجه موقفاً نفسياً يجعله مأزوماً؛ فهو كثيراً ما يتعرض للسخرية من علام ومسعود الشاعر الليبرالي، وكلّما شعر بالقلق من المواجهة المرتقبة في عملية استرجاعيّة أشبه بالاعتراف و التبرير لما آل إليه أمره ساردا ًالتفاصيل المتعلقة بقسوة الأب عليه وعلى أمه، ويستحضر ما انتهى إليه من مكانة في استدعاءٍ لما وصل إليه واستباقٍ لما سيحرزه، ووصفٍ لما يدور في خلده في تلك اللحظات الحرجة، وتستغرق هذه المذكرات حيّزا لا بأس به من الرواية وتمثّل مفصلاً من مفاصل تطوّر الحدث وتناميه فيما يتعلق بالتحضير للمناظرة المنتظرة، وهي مؤرخة بتواريخ الأيام التسعة من يوليو، وهي الأيام التي يعنون بها فصول روايته؛ أما فيما يتعلّق بالركن الثاني من المعادلة الحجاجيّة فيتمثّل فيما عرف باستراتيجية الباتوس، وهي تتبدّى فيما يهدف إليه النّص من إثارة في نفوس المتلقين، ولعلّ ذلك يظهر في رؤية الكاتب ووجهة النظر التي يقدمّها، وهناك كما يتضح من نمذجة وتنمبط لشخصيات الرواية وتسلسل أحداثها وبناء حبكتها ووسائل السرد وبنيته وبرنامجه والوقفات التي يملؤها بالتعقيب والتعليق والحوارات المشهدية؛ ففيما يتعلّق بالنمذجة فإن الثلاثي المتمثل بأطراف الحدث المركزي الرئيس الذي تمحور حول الإعداد للمناظرة بين الشيخ نبهان الذي يمثل شريحة ثقافية واجتماعية تتمترس خلف العقيدة الإسلامية وتستثمرها لمصالحها وتجنيد أتباعٍ لها، واستثمار خطب الجمعة والمداواة بالرقية الشرعية، وانفصال الحياة الشخصية بمباهجها وتفاصيلها الشهوانية حيث الزواج من امرأتين واستغلال إحداهما في رقية النساء واتّباع نظام دقيق في إدارة الأعمال الخاصّة، والإيحاء للناس بسموّ مقاصدها، وإقناع جمهوره باتباع شرع الله وتطبيق سننه واستقامة منهجه، وفي المقابل فإن الدكتور علام يستغل أتباعه في الترويج له بما في ذلك هزاع ومسعود ورافع، ونشر مباديء التنوير والحرية من خلال محاضراته ومقالاته وندواته وأتباعه لكي يقنع الناس بأن الطرف الآخر متخلّف ورجعيّ وأنه يسعى إلى الحرية والتقدم في حين أن له حياته الخاصة التي تتناقض مع ما ينشره ، فهو بوهيميّ لا يهتم بالتحضير للمناظرة مع الشيخ نبهان ملول يتصفح ما يقدم له على عجل، ويورد الكاتب قصة زواجه من مريم وعلى لسانها في قصة بعثت بها إلى هزاع لنشرها، وعلاقته السرية بهادية عشيقته التي أفشى هزّاع سرها لزوجته مريم انتقاماً من إهانتها له، فكلاهما يسعى إلى ركوب موجة التيار الذي يروّج له، والقطب الثالث في هذه المعادلة هزّاع الذي يناور لمصلحته الخاصة ويبدو أقرب لأن يكون شخصية (لا منتمية) فهو يجنّد إمكاناته للفوز بغنيمته الخاصة دون مبدأ أو هدف محدّد. ويتمثّل الركن الثالث في استراتيجية (اللوغوس) المرتبطة بالخطاب السّردي ذاته بحيث (يتم إثبات معطىً حقيقيٍّ أو محتمل من خلال حجج مقنعة خاصة بالرؤية) إذ تعتمد هذه الاستراتيجية على ما هو عقليّ وموضوعيّ من أجل تحقيق الإقناع، يتمثل هذا المعطى في شخصية تُناظر موقف اللامنتمي ممثّلة في هزّاع وأستاذه علّام، وهي شخصية (محسن الخلف) فقد لاذ بمنطق عقليٍّ موضوعيٍّ يعتمد على الإقناع، ترك رفقة الشيخ نبهان وتخلّى عن سماته الأيقونيّة متمثّلة في لحيته التي حلقها بعد أن تخلى عن الاقتناع بتيار نبهان، ولكنه لم يُسلّم بآراء علام؛ بل راح يحاوره محاورة موضوعيةّ فيما ذهب إليه من آراء، ووعمد إلى تقرّي ملامح المكان (بيت علام وما انطوى عليه من أناقة وجمال) ومجلس نبهان، ثم راح يمطره بالعديد من الأسئلة محاولاً استكشاف حقائق التوجّه الفكري لدى الطرفين، فسلك سبيل الحوار واتّبع آلية الكشف والاستفسار والمنطق في فهم الأشياء) وقد ترك المؤلف النهاية مفتوحة لتبدأ المناظرة ويظلّ الباب مُشرعاً، ولقد كانت أسماء الشخصيات التي اختارها علامات دالّة، ولعلي أعود لمناقشة باقي الجوانب الثريّة في هذه الرواية وخصوصاً فيما يتعلق بتعدّد الأصوات واللغات .