في مجموعة « مذكرات آخر فئران الأرض « لموسى الثنيان ..
من ذاكرة السد إلى العلاقة مع الإنسان .

في وقتٍ كان الإنسان قد سكن المدن الخرسانية والبوابات الحديدية ونزح عن قرى الطين وأبواب الخشب، فانحسرت حكايات كثيرة بين الإنسان الحديث وبين الحيوان، خلا الأمر من قطط مُدللة، وكلاب تجرُّ أصحابها بجولات يومية بملل، وأسماك حبيسة في أحواض تطنُّ بالفلاتر، وطيور يائسة تنثر ريشها خارج الأقفاص، أما الفئران والصراصير والسحالي الأكثر مقتاً، مافتئت تخوض معارك مع الإنسان لتستعيد شيئاً من أماكنها معه، إلا أن فئة تشبه الفئران، (الهمستر أو الجرْنب) لطيفة ذات أعين لامعة وبريئة نجحت في تدجين نفسها، لتكتفي بالدوران حول دواليب صغيرة، وتتسلى بنشارة خشب، مقابل أن تتخلى عن طبيعة القرض العشوائية . تطالعنا هذه الفكرة أوثمة أفكار أخرى بعد أن نقرأ قصص موسى في الفئران، إذ يكتب في الغلاف الخلفي لمجموعته القصصيـة ( أليست الفئران تسكن بيوتنا، ويقاسموننا مساكننا وطعامنا؟ فتارة نراهم لصوصاً وتارة أخرى نراهم فئران تجارب ... والفئران دخلت عالم الأمثال العربية والميثولوجيا فمن ورائهم تدفق سيل العرم وأعيد تشكيل جزيرة العرب، ومن ورائهم كذلك كان الفارابي الفيلسوف العظيم قد اكتشف عالماً جديداً للموسيقى) ثم يقول (دائماً مايراودني ذلك السؤال المراوغ والمُلح : هل للفئران ضرورة) ؟ لطالما كانت الفئران قد اتخذت لها مكانة خاصة من الذاكرة والبيوت، فإن هذه المجموعة لا تنفذ من خلال أنسنة الحيوان في قصصها، بل هي قصص جمع فيها كاتبها كل مايتعالق بين الفأر والإنسان، مهتماً بدوره تصريحاً أو تعريضاً، مثل قصة (جناب المحترم ماغاوا)، ماغاوا اسم الجرذ الذي كان دوره واضحاً ومهماً، حيث القصة تدور بين جندي حرب متقاعد أمضى حياته في زرع الألغام والحروب، و جرذ نجح في تفكيك هذه الألغام وأنقذ حياة الناس، تنتهي حياة الجندي بالجنون حيث كان يخاف على بزته العسكرية التي تمثل رمز انتصاراته وتكريمه الشخصي لنفسه متمثلاً بالأوسمة التي حصدها، و يقارن نفسه بهذا الفأر الذي سمع خبر نعيه في الإذاعات وتم تكريمه لإنقاذه حياة الناس، ويبدأ الخوف منه من أن يطال القرض بزته أو ينهي حياته. أوتأتي القصص متخيلة، مثل قصة (أحشاء الفأر) ، بحوار بين اخصائي مختبر و فأر، يطرح هذا الفأر الأسئلة العديدة التي تهمه على مدى أزمنة من سُخرة الفئران واستخداماتها المهمة. أو قد تظهر في مثل شعبي ساقه الكاتب على لسان بطلة قصة (شجرة البمبرة) التي (يلعب الفأر بعبها) خوفاً من أن يأتي طريق (القص) على شجرتها المفضلة ، حيث يبحث القارىء عن فأر في القصة فيجده في هذا المثل الشعبي المتداول. تتنوع المجموعة في اختيارات العناوين مثل ( تمخض الفأر، فأر اسمه الخلد، الفأرابي ) وهي اختيارات ذكية لأنها تجذب القارىء نحو القصص كونها من الشائع والمتداول وربط هذه الأفكار بالشائع منها، كذلك اهتم بأماكنهم مثل ( فئران الجبانة ، الحائط الطيني، ماكينة بدرية ). كُتبت القصص بصوت الراوي العليم، بألفاظ سهلة وتعابير يسيرة، وتركيز حول تصاعد السرد والأثر النفسي أو الاجتماعي ومآلات ذلك، كما أنها تنقل القارىء للحدث والوصف المطلوب دون ثرثرة، لا تخلو قصص الثنيان كما عودنا من أثرٍ ما مُسقط على رمزٍ ما، بعضها مضمرة وهي ما تكون الأكثر تشاركية مع القارىء وانفتاحاً للتأويل وأكثر وقعاً، ولكنّ بعضها يجنح للمباشرة وانكشاف المغازي على لسان أبطالها، كما لاتخلو من الكوميديا، حيث تمارس الفئران فطرتها في القرض فتقدم الحلول على سبيل الصدف أو تسبب الكوارث!. يلحظ القارىء لموسى تعالقه بالأرض من خلال ملاحظاته في الطبيعة والجغرافيا بخصوصيتها المكانية، فهو يذكر زهر النوير، وشجرة البمبرة، وطيور الدوري، والبحر، وبيوت الطين، (والسوابيط فيما كتب سابقاً)، بل إن القارىء يرى أن مذكرات آخر فئران الأرض هي مذكرات مقتطعة من المكان وتأصله.. سؤال ماضرورة الفئران؟ كان هذا السؤال هو شرارة الخيال التي انطلقت منها القصص، ولأن لاغرض لنا بالجواب فيكفي أن الفئران قد أوقظت جميع الحكايات النائمة في ذاكرتنا القرائية أو المعاشة، أظن أن كل قارىء لن يغادر المجموعة دون أن يستعيد قصته الخاصة التي صادفها مع فأرٍ أو قرأها عن فأر، حيث رحتُ أطالع القصة الشهيرة أمير الألحان من جديد. وبمطالعة مجمل القصص يمكننا القول أن الدخول في السرد إلى أماكن عمومية والتي قد نستبعدها باعتبار أنها قصص قد لا تصعد بالفكرة أو باعتبارها مطروقة، إنما هي خطوة تقع في السهل الممتنع، حيث تبقى قوة التحدي فيما يمكن أن يُقال بطريقة تدهشنا، أو على الأقل بطريقة تستوقف أفكارنا من جديد حول ماهو معروف أو بديهي وبالتالي يمكننا أن نمنحه صفة الفن أو الأدب . يطالعني سؤال النهايات بعد الانتهاء من قراءة المجموعة حيث كانت معظم نهاياتها متوقعة بل منكشفة منذ منتصف السرد، هل لابد للقصة أن تدهشنا بقفلة مخاتلة! أم يكفي أن نستمتع بقرائتها مع ماهو متوقع!. المجموعة ضمت إحدى عشرة قصة، كانت ممتعة ولطيفة تمنيت أن تكون أكثر من ذلك، وأن تحفر بالأفكار أكثر، فقلم الكاتب موسى قادر أن يشي بالكثير .