
صدر للباحث والشاعر عبدالرحمن موكلي (كتاب الفُل) في طبعته الثانية، عن دار أروقة للنشر بمصر، في عام 2023م، حيث كان عنوان الطبعة الأولى منه (هَرُوج الفِلّ)، الذي هدف إلى تقديم سيرة موثقة عن الفل في جازان، مع شُحّ المراجع البحثية والدراسات العلمية، وغياب المعلومات الموثقة عن الفل، كما قال المؤلف، الذي انطلق في سرد سيرة الفل بأسلوب جمالي متفرع ومتعدد. بينما هدفه الآخر الوصول إلى القارئ وإشراكه في البحث عن إجابات لتساؤلاته، وهو يروي (هَرُوجًا) عن الفل في جازان، فجاء الكتاب في 142 صفحة من الحجم المتوسط. يحيلني هذا الكتاب للموكلي إلى رواية (حدث في صبيا) للأديبة الإماراتية الروائية سعاد العريمي، التي استلهمت من الفُلّ أيقونة في عملها الروائي، الذي دارت كثير من مشاهده وأحداثه في مدينة صبيا بصحبة بطل العمل “جوير الله” الذي يعيش في كنف أمّه “رحمة”، ويعمل كبائع فُلّ متجوّل في حارات وأزقة تلك المدينة بوصفها مدينة فُلّ راسخة وعامرة بهذه الوردة منذ سنين طويلة حتى غدا مرتبطًا بها لا ينبت إلّا في تربتها، ولا يُجنى إلّا بأياد معروفة ومتوارثة لهذه المهنة التي تبعث الجمال في كل الأرجاء في كل موسم فُلّ، وهو ما ركّز عليه “موكلي” عبر هذا الكتاب في سيرته عن الفل في ذات المدينة وما حولها من مدن وقرى أخرى. قدّم المؤلف إهداء هذا الكتاب إلى صديقه الأديب خالد خريزي، واصفًا إياه بسيرة الفل، وبهاء الصداقة. ومن لطيف ما صدّر به المؤلف مقدمة هذا الكتاب نصًا مختصرًا لـ”أمبرتو إيكو” من روايته “اسم الوردة”، حيث يقول: “الكتب لا تكتب لتصدق، ولكنها عرضة للمساءلة، عندما نفكر في الكتاب، يجب ألّا نسأل أنفسنا ماذا يقول، ولكن ماذا يعني..؟”، وهو السؤال الذي يرافق القارئ من بداية الكتاب حتى نهايته التي يصل إليها، وقد استغنى عن اكتشاف إجابة له عنده غوصه فيما كتبه “موكلي” من جماليات ومعان تعج بقصص وحكايات عن وردة الفل. يتكوّن الكتاب بحسب تقسيمات المؤلف من أربعة أقسام، الأول حمل عنوان (كتاب البدع)، وجاء القسم الثاني تحت عنوان (كتاب الرَّد)، واختار للثالث عنوان (كتاب مُتفرّقات)، مختتمًا بالقسم الرابع بعنوان (كتاب الأغاني)، فكانت في كتاب واحد هو (كتاب الفُل)، وحملت في تقسيمها بهذه الطريقة رؤية شعريّة، كما انضوت تحت كل قسم موضوعات متفاوتة في محاورها بين الطويلة والقصيرة. في العنوانين الأوّلين استخدم المؤلف أسلوب المحاورة والمجاراة الشعرية التي تتكوّن من (البدع)، و(الرد)، وكأن المؤلف، وهو شاعر كذلك، يُحاول هنا أن يُطبّق هذا اللون الشعري على سردية الفل التي كتبها لنا بقالب نثري مصبوغ بروح عطائه الشعري، وبخاصة تجربته المتراكمة في كتابة “قصيدة النثر” على مدى مراحل متعدّدة من تجربته الشعرية. ذكر المؤلف في (كتاب البدع)، القول التالي: “إنّ شُهرة الفل بدأت من مدينتي صبيا وأبو عريش، لما لهاتين المدينتين من شهرة بكل ما له علاقة بزينة النساء، وجماليات الجسد من الطيب إلى النقش والحناء، فالعناية بالجسد وجمالياته تعتبر من ثقافة المدن؛ حيث تعدد الطبقات الاجتماعية، وتراكم رأس المال، والجماليات في المدن صناعة لها أربابها من الرجال والنساء..، ولعلّ هذا ما جعل حضور الفل يبدأ من هاتين المدينتين، كمنتج جمالي تقوم عليه المرأة”. ناقش المؤلف عددًا من المواضع المكانية في شبه الجزيرة العربية، وخارجها كشبه القارة الهندية، التي ذكرها تأريخًا للحضارة التي نشأت منها زهرة الفل بوصفها نشأة تحمل في طياتها كثيرًا من الحمولات السوسيولوجية والأركولوجية التي يمكن أن تبحث في أصل ومنشأ زهرة الفل. هذه الحمولات تفسرها الموروثات الفلكلورية التي ترى قيمة الفل في كثرته، إذ توحي هذه الكثرة للفل بحالة البهاء التي تعلتي وجه المكان المضمخ بالفل، فتتجلى جمالياته في مواعيد الفرح والبهجة؛ كالأعراس، والأهواد (جمع هود، وهو احتفال يُقام بمناسبة ختان الولد). وأورد المؤلف في (كتاب الرَّد)، قوله: “في الأفراح يُنثر الفل على العريس والعروس ليلة زفافهما، وينثر على الضيف العزيز الذي يدخل البيت، ويستخدم الفل إذا جفّ كطيب، يخلط الفل باللباب ثمّ يُطحن، ويضاف إليه الماء، وتستخدمه النساء رشوشًا لرؤوسهن”. وذكر المؤلف الحضور الذي يلازم المرأة الجازانية في حياة الردائم أو الردايم (جمع الرَّدِيمة، واسم شجرة الفل في جازان، وتُسمّى شتلتها بنت أو سبية)، موردًا قصة أول شجرة فل دخلت إلى بيت خالته وأمّه (عايشة حَسَنة) في قرية الظبية هدية من سميتها، متطرقًا إلى المناخ الملائم لزراعة الفل، وأشهر أنواعه، وتشكيلات نظمه وفنون تقديمه، وصولًا إلى زمن تسليعه، وبيعه في الأسواق في الثمانينات الهجرية من عمر هذه النبتة التاريخية. تأخذك شعرية السرد التي حبك شاعريتها المؤلف إلى لوحات من المعاني المتداخل بعضها في بعض، ليرسم منها مقطوعة سردية تنطلق من الواقع البسيط بجانب (رديمة) فُلّ لتحلّق بك في فضاءات من التأمل، الذي يصوغ معنى جماليًا في كل جملة أو موضوع حكاه “موكلي” عن الفُلّ ما بين نوستالجيا الوجدان والحياة المرتبطين به، وميثولوجيا تداعيات هذا الحضور للفل في جازان منذ القدم وحتى اليوم. ربط المؤلف في حديثه الذي يحكي واقعًا مُعاشًا عن (الفُلّ) بين مسيرة تاريخية تبحث في المنشأ والانتقال وأماكن كثيرة تتواجد بها هذه النبتة الفرائحية، وبين مسيرة اجتماعية أحدث تحوّلات كثيرة في أسباب حضورها واهتمام الناس بها وزراعتها وقطفها وإهدائها وحتى بيعها، هذا التحوّل الذي يثير الاهتمام والسؤال عن اللحظة التي خرجت فيها من البيت إلى السوق، فتبدّل حال الفُلّ وربّما أثّر ذلك على البهجة المضمخة برائحة الفرح حين ينضم في عقد من البياض. وهنا أحيل للقراءة النقدية المحتفية بهذا الكتاب، التي كتبها الناقد الدكتور عبدالله العقيبي، ونشرتها مجلة “الفيصل”، حيث قال: تنساب في هذا البحث الجمالي الأفكار والرؤى على هيئة دفقات شِعرية في غاية الجمال والرقة، وليس هذا بمستغرب على الشاعر حين يتناول موضوعًا تأمليًّا وثيق الصلة بالأفراح والمباهج. قد يظن بعضهم أن الكتاب بصفته الشِّعرية التي ذكرنا لا يقدم الفائدة والإضافة. والحقيقة خلاف ذلك؛ فالسرد اللطيف واللغة المجازية مرتبطان كل الارتباط بالمادة المعرفية، لكن الفارق يكمن في أن كل معلومة مقدمة من خلال نظرة تأملية، تغلف المعلومة وتزفها للقارئ بأسلوب احتفالي، مليء بالفخر والفرح والابتهاج والاحتفال بالحياة. وفي العنوانين الأخيرين من الكتاب، جاء العنوان الثالث (كتاب مُتفرّقَات)، في موضوعات شتّى عن الفُل، حيث تطرق المؤلف إلى تاريخ الزهور في الحضارات القديمة، وتواجد النباتات العطرية الأخرى إلى جانب الفل في جازان، وما يعكسه التزين بالفل من جماليات رمزية لدى الرجل والمرأة، إلى جانب المشتركات الجمالية الأخرى بينهما. وحمل العنوان الرابع والأخير من (كتاب الفُل)، عنوان (كتاب الأغاني)، وهو الفصل الذي كرّسه المؤلف للحديث عن الحالات الفنية والغنائية التي اشتملت على موضوعات (الفُل)، واهتمام قلّة من الشعراء للكتابة عنه، في مقابل قلّة من الفنانين الذين تغنوا بالفل؛ أمثال الفنان محمد عبده في غنائه لقصيدة (مثل صبيا) للشاعر إبراهيم خفاجي -رحمه الله-، كأوّل شاعر يكتب عن الفل، وأوّل فنان سعودي يتغنّى بالفل، ويقول: مثل صبيا في الغواني ما تشوف ناشرات الفل، والنقش اليماني في الكفوف. ولا ننسى كذلك قصيدة (حزينة الليلة الردايم)، التي كتب كلماتها الشاعر أحمد السيد عطيف، وغناها الفنان حسن خيرات، وفيها يقول: حزينة كلها الليلة امردائم بلا ساقي، ولا قاطف، وناظم. ولم يورد المؤلف قصيدة (رحنا إلى البندر)، التي غناها الفنان اليمني محمد سعد عطروش، وتقول كلماتها: رحنا إلى البندر في شهر نيسان نشتي نبيع الفل فل ولهان ضعيت أنا فلي وأصبحت هيمان روحت أنا والقلب بالشيخ عثمان وهذه الأغنية للفنان محمد سعد أراها تتناص مع القصيدة الشعبية التي أوردها “موكلي” في كتابه، بعنوان (سَوّقت سُوق امْعارضة بعت فلي)، وهي من الأغاني الشعبية التي ظهرت في جازان عند الستينات الميلادية، وتقوم على إيقاع رقصة (اللعب) النسائية، وتحوّلت إلى أغان تُقدّم في الأفراح والمناسبات، وتقول في كلماتها: سَوّقت سُوق امْعارضة بعت فلي واهل البيوت امطارفك يهتفون لي إلّا وثنتين صبايا نشروا العصر مَاسي وبين نخيل امْعارضة شيح وكاذي