
أهداني الأخ العزيز الأمير بدر بن فهد آل سعود نسخة من كتابه بعنوان «فلسفتي»، وظننت لوهلة أنني بصدد مطالعة تأملات عابرة أو خواطر شخصية كما اعتدنا في كثير من المؤلفات التي تصدر من هذا النوع. لكن المفاجأة كانت أكبر من التوقع، فقد وجدت نفسي أمام نص مختلف، نص يوقظ الأسئلة، ويفتح بوابات الوعي، ويدفع القارئ للتفكر في أبسط مسارات حياته وأكثرها تعقيداً في آنٍ معاً. لم يكن الكتاب مجرد كلمات على ورق، بل مشروع وعي شخصي، يكتب فيه الأمير بدر ليس من موقعه الاجتماعي، بل من موقع الإنسان الذي تأمل، وراجع، وواجه، ثم قرر أن يشارك أفكاره بصدق لا يخلو من العمق، وجرأة في نقد تفاصيل الحياة اليومية، فهو لا يقدم نصاً عادياً، بل شهادة وعي، ومحاولة لكسر النمط وإيقاظ الإنسان من حالة الركض الاستهلاكي الأعمى. وهذا تماماً ما يفعله الأمير بدر آل سعود في كتابه فلسفتي، الذي لا يُمكن تصنيفه ككتاب تنمية بشرية تقليدي، ولا كعمل تنظيري متعالٍ، بل هو حالة فكرية وجودية، تنطلق من ذات متأملة وتحاول أن تفهم العالم دون أقنعة. مدخل التجربة: توهّج الأسئلة يبدأ الكاتب من حيث ينطلق معظمنا دون وعي: الركض. المدرسة، الجامعة، الوظيفة، الزواج… سباقات لا تنتهي، ومسارات مرسومة سلفاً، حتى نكاد ننسى سؤال: “ماذا نريد فعلاً؟” هذا السؤال المحوري يتكرر في الكتاب بصيغ متعددة كصرخة فكرية وسط صخب المجتمع الاستهلاكي. المدخل الذي يقدمه الكاتب ليس فلسفياً بالمعنى الأكاديمي، بل هو تأمل عميق مستمد من معاناة داخلية وتجربة معاصرة، نعايشها جميعاً. نحن، كما يقول، ضحايا “تنويم مغناطيسي” جماعي، تمارسه علينا الأنماط التقليدية المكررة في: الإعلام، التعليم، التكنولوجيا، شركات المنتجات الاستهلاكية، وحتى المجتمع ذاته. من جانب آخر يتناول الكاتب العلاقة المعقدة بين الإنسان ووسائل الإعلام الحديثة، ويرى أن التلفاز لم يعد مجرد وسيلة للترفيه، بل وسيلة برمجة ذهنية. فهو يوقف عمليات التفكير النقدي، ويغمرنا في محتوى مُعلب، يسوّق لأنماط استهلاك، وأفكار سطحية، ويعيد تشكيل وعينا بطريقة ناعمة، لكنها شديدة الخطورة. أما في حديثه عن عمالقة التكنولوجيا كأبل وفيسبوك، فالنبرة تتجه نحو التحذير العميق: نحن نعيش في عصر “الاستعمار الرقمي”، حيث تُسرق بياناتنا بواجهة براقة من الخدمات المجانية. الخصوصية لم تعد حقاً، بل سلعة تُباع وتشترى. والمستخدم، من دون أن يشعر، تحوّل إلى دمية يتم التلاعب بها بمنتهى الحرفية. ينتقل الكاتب إلى نقد التعليم التقليدي، الذي يصنع “نسخاً” متطابقة من البشر. يُفترض أن المدرسة تكشف المواهب وتصقلها، لكنها، كما يعرض، غالباً ما تفشل في احتواء الاختلاف، وتُقوّم الطلاب من خلال مقاييس محدودة، لا تعترف بالذكاء المتنوع. ولعل استعراضه لسير مشاهير لم يكملوا تعليمهم التقليدي، وحققوا نجاحات عالمية، لم يكن استعراضاً مكرراً، بل دعوة صريحة لإعادة تعريف النجاح والذكاء. النجاح لا يُقاس بالشهادات فقط، بل بمدى قدرة الإنسان على اكتشاف ذاته وصنع طريقه الخاص. الكتاب مليء بنقد ذكي للأنماط الاجتماعية الموروثة، فنحن نستهلك لا لأننا نحتاج، بل لأننا نُدفع لا شعورياً للاستهلاك، ولأننا مُبرمجون مسبقاً على اختيارات الآخرين. إنها حالة من “الاستلاب الجمعي” كما يمكن وصفها بلغة علم الاجتماع. هنا، يقدم الكاتب وصفة عكسية: اعرف نفسك، لا تخجل من اختلافك. وهذه الرسالة، رغم بساطتها الظاهرة، إلا أنها تتطلب قدراً هائلاً من الشجاعة والمراجعة الداخلية، وهو ما يلح عليه الكاتب مراراً. بين الفلسفة والاعتراف الشخصي لغة الكتاب تمزج بين البوح الشخصي والرؤية الفكرية. نلمح بين السطور تجربة ذاتية، مليئة بالتأملات العميقة والتحديات الفكرية، لكنها لا تُقدَّم بشكل مباشر، بل تُروى من خلال عرض أفكار ومواقف وقراءات متعمقة، مما يمنح الكتاب مصداقية وجدانية كبيرة. الاقتباسات من كتب مثل “أسرار التنويم المغناطيسي الذاتي” و”القوة الناعمة” وغيرها، لم تأتِ لعرض ثقافة الكاتب، بل لتكملة مشهد تحليلي أوسع، تتلاقى فيه التجربة الشخصية مع التأصيل النظري. وهذا الدمج بين الذاتي والعام من أبرز نقاط القوة في الكتاب. رغم اللهجة النقدية للكتاب، إلا أنها لا تسير باتجاه التشاؤم أو التذمر، بل تتجه نحو إعادة بناء الذات، ليضع القارئ أمام مرآة حقيقية، تدعوه للانتباه، والتفكير. وقد يرى بعض القراء أن هذه المواضيع طُرحت كثيراً من قبل، لكن أسلوب الكاتب المختلف، وتمريره للأفكار بنَفَس هادئ وتأملي، يمنح تلك القضايا عمقاً جديداً وشخصياً. كتاب «فلسفتي» ليس فلسفة نظرية بل هي دعوة للانخراط في الحياة بشكل أكثر وعياً، دعوة للبحث عن التفرد، عن موهبتك، شغفك، حقيقتك. الكتاب لا يمنح إجابات جاهزة، بل يزرع الأسئلة، وهذا ما يجعله مؤثراً. إنه أقرب إلى مرآة فكرية تواجه فيها نفسك، لا الآخر.