رواية « دومة ود حامد » للطيب صالح تطرح سؤالاً ..
هل يمكن التوفيق بين الأصالة والحداثة دون خيانة أحدهما ؟

“دومة ود حامد” مجموعة قصصية، للطيب صالح،( 1929 ~2009) ، وفي هذه القصة التي تحمل عنوان العمل، ينفتح النص كصرخةٍ صامتة تعكس معاناة الإنسان السوداني في مواجهة تناقضاتٍ وجودية وثقافية. القصة ليست مجرد حكاية عن قريةٍ منعزلة، بل هي استعارةٌ لأزمة الهُوية العربية التي تتأرجح بين ثقل التراث وإغراء الحداثة. تبدأ الأحداث بتفاصيل تتبدى للوهلة الأولى أنها بسيطة: عودة مهدي، الشاب المتعلم، إلى قريته بعد سنواتٍ في المدينة، لكن هذه العودة تحمل في طياتها زوبعةً من الأسئلة التي تهز أركان “الدومة”، ذلك البناء القديم الذي يرمز إلى النظام الاجتماعي المتصلب. الدومة نفسها، بجدرانها الدائرية ومركزيتها، تشبه كائناً حياً يلفظ من لا ينتمي إليه. إنها ليست مجرد مكانٍ للسكن، بل هي نظامٌ يفرض قوانينه عبر سلطة الشيخ حامد، الذي يجسد الأب الروحي للقرية. هنا يخلق صاحب “موسم الهجرة للشمال” مفارقةً مأساوية: فالدومة التي تحمي أهلها من المخاطر الخارجية، تُشكل سجناً داخلياً يخنق أحلام الشباب. مهدي، الذي يحمل أفكاراً جديدة من المدينة، يجد نفسه عاجزاً عن تغيير هذا الواقع، ليس لأن المجتمع يقاومه فحسب، بل لأنه هو نفسه مرتبطٌ عاطفياً بهذا التراث. هذا التناقض بين العقل والقلب يصبح جوهر الأزمة. الشخصيات في النص تعيش حالةً من التمزق. الشيخ حامد، رغم سلطته الظاهرة، هو شخصية تراجيدية؛ فهو يؤمن بأن الحفاظ على التقاليد هو ضمانة بقاء المجتمع، لكنه يدفع ثمن هذا الإيمان بفقدان التواصل مع أبنائه. موته في النهاية ليس مجرد حدثٍ درامي، بل إشارة إلى انهيار نموذجٍ لم يعد قادراً على الصمود. أما مهدي، فيمثل جيلاً وقع في فخ اللاانتماء: تعليمه في المدينة جعله غريباً عن قريته، لكنه أيضاً لم يجد في المدينة ما يشبع بحثه عن الذات. الطيب صالح يقدمه ليس كبطلٍ ثوري، بل كشخصية هاربة من مواجهة ذاتها، ما يضفي على السرد بعداً نفسياً عميقاً. النساء في النص يلعبن أدواراً ثانويةً ظاهرياً، لكنهن أساسيات في تشكيل البنية الاجتماعية. زينب، أم مهدي، وأخواتها، يكرسن ثقافة الصمت والطاعة، ليس لأنهن ضعيفات، بل لأن النظام الأبوي حوّلهن إلى حارساتٍ له. هذه المفارقة تظهر كيف تتحول الضحية إلى سجانةٍ دون وعي، وهو ما ينتقد به صالح المجتمعَ الذي يشرعن اضطهاد المرأة باسم الحماية. الزمن في هذا العمل، ليس خطياً، بل هو حلقةٌ مفرغة. ذكريات الماضي (كحكايات الأجداد عن المجد الضائع) تتداخل مع الحاضر، لتؤكد أن الشخصيات عاجزة عن الفكاك من دائرة التكرار. محاولة مهدي تغيير الدومة تُذكرنا بمحاولات سابقة فشلت، وكأن مبدع “مريود” يلمح إلى أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى هدمٍ أعمق من الهدم المادي؛ هدمٌ للبنى الذهنية التي تُعيد إنتاج التخلف. لغة مبدع “بندر شاه” في القصة تستحق وقفةً خاصة. إنها مزيجٌ من الفصحى الرصينة واللهجة السودانية الدافئة، ما يعكس ازدواجية العالم الذي تصفه. الكلمات المحلية (مثل “السرحة”، “الطابون”) تمنح النص نكهةً واقعية، بينما الاستعارات الفلسفية (كوصف الدومة كـ”رحمٍ يلد الموت”) ترفعه إلى مستوى التأمل الكوني. هذا الانزياح اللغوي ليس زينةً أدبية، بل هو جزء من رسالة الرواية: الهُوية ليست نقيةً ولا ثابتة، بل هي فسيفساء من التأثيرات المتناقضة. عوالم “دومة ود حامد”، في جوهرها، تحمل سؤالاً مركزيّاً: هل يمكن التوفيق بين الأصالة والحداثة دون خيانة أحدهما؟ صاحب “عرس الزين” لا يقدم إجابةً سهلة، بل يرسم مشهداً مليئاً بالرماديين. فالدومة، رغم قسوتها، تظل ملاذاً للذاكرة الجماعية، فيما المدينة، رغم حريةِ ظاهرها، تبتلع الشخوص في فردانيتها القاسية. النهاية المفتوحة التي تبقي الدومة قائمةً رغم موت حامد، تترك القارئ في حيرةٍ، تمثل معادلا رمزيا لحيرة الناس: هل التمسك بالتراث انتحارٌ ثقافي، أم أن التخلي عنه هو الخيانة العظمى؟ ما يجعل “دومة ود حامد” عملاً له فرادته هو أنها تتخطى السياق السوداني لتصير مرآةً لكل مجتمعٍ يعيش على مفترق طرق التاريخ. الروائي السوداني الطيب صالح، ببراعة السارد العارف بجراح أمته، يذكرنا بأن صراع الهُوية ليس معركةً بين الماضي والحاضر، بل هو حوارٌ مؤلم مع الذات، قد لا ينتهي إلا بقبول فكرة أننا كائناتٌ هجينة، نعيش في الهامش بين عالمين، ولا ننتمي تماماً إلى أيٍّ منهما.