جائزة الملك فيصل..

تكريمٌ بقلب عربي وروح إسلامية.

منذ أن بزغ فجرها في أفق العالم الإسلامي قبل أكثر من أربعة عقود، لم تكن جائزة الملك فيصل مجرد تكريم رمزي، بل أصبحت منارة فكرية وعلمية، تتجه إليها الأنظار كل عام، وتلتقي عندها القامات الفكرية والإنسانية التي صنعت فرقًا في تاريخ البشرية، وبينما تزداد مشروعات الجوائز الفكرية والعلمية في العالم، تبقى جائزة الملك فيصل استثناءً عربيًا وعالميًا يؤمن بأن التميز لا يُقاس بالأسماء، بل بالأثر الممتد في عمق الحضارة. احتفاءٌ بالفكر والإنسان في مشهدٍ يليق بتاريخ الجائزة ومكانتها، شهدت العاصمة الرياض حفل تكريم الفائزين بجائزة الملك فيصل لعام 2025 في دورتها السابعة والأربعين، برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله ورعاه)، ونيابة عنه شرف الحفل أمير منطقة الرياض الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، وذلك في قاعة الأمير سلطان الكبرى بفندق الفيصلية، حيث استُقبِل أمير الرياض عند وصوله بمراسم مهيبة، كان في مقدمتها رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الأمير تركي الفيصل، والأمين العام لمؤسسة الملك فيصل الخيرية الأمير بندر بن سعود بن خالد، والأمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز السبيل. بدأ الحفل بتلاوة من القرآن الكريم، ثم توّجه الأمير تركي الفيصل بكلمة مؤثرة، ثمّن فيها رعاية القيادة للجائزة، مؤكدًا ما استشرفه الملك فيصل (رحمه الله) منذ عقود بأن تكون المملكة مصدر إشعاع للإنسانية، مضيفًا أن "القيادة إن رأت أمامنا أبوابًا موصدة للرقي والازدهار فتحتها، وإن وجدت نوافذ مغلقة للرفعة والافتخار شرعتها، فبحمده نسير مطمئنين لنصل إلى ما استشرفه فيصل بن عبدالعزيز لهذا البلد الطيب أن يكون مصدر إشعاع للإنسانية"، مهنئًا الفائزين بالجائزة، وأعقب ذلك كلمة للأمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز السبيل حيث قدم فيها الفائزين تقديرًا لإنجازاتهم الرائدة في مجالات الجائزة التي تسهم في خدمة البشرية وتعزيز المعرفة. جائزة عالمية بروح عربية منذ أن أطلقت مؤسسة الملك فيصل الخيرية هذه الجائزة في عام 1399هـ (1979م)، وضعت نصب عينيها هدفًا جوهريًا: خدمة المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، وحثهم على المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية. ولتحقيق ذلك، اختيرت خمسة فروع تغطي أكثر مساحات التأثير عمقًا: خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب، والطب، والعلوم. ما يميز الجائزة هو نزاهة نظامها واعتمادها على معايير دولية صارمة في التحكيم، حيث تتم مراجعة الأعمال المرشحة من قِبَل لجان علمية متخصصة، لا تأخذ في الاعتبار سوى الجدارة الفعلية والاستحقاق الصادق. وقد انعكس هذا النهج في رصانة الجائزة عالميًا، إذ حصل عدد من الفائزين بها لاحقًا على أرفع الجوائز العالمية مثل جائزة نوبل. ويؤكّد هذا المنهج أن الجائزة ليست فقط وسامًا عربيًا، بل صرحًا عالميًا يعترف بالكفاءة، أيًّا كان منشؤها. الفائزون في دورة 2025 تميّزت دورة هذا العام بمنح الجائزة لستة فائزين من شخصيات ومؤسسات تركت بصمتها في مجالاتها، كان لكل منهم قصة تستحق أن تُروى، ففي فرع خدمة الإسلام، مُنحت الجائزة لمبادرة "مصحف تبيان" من جمعية لأجلهم في المملكة العربية السعودية، نظير ابتكارها تطبيقًا رقميًا يُترجم معاني القرآن الكريم بلغة الإشارة، في خطوة فريدة تعزز الشمولية الدينية لذوي الإعاقة السمعية، كما مُنحت الجائزة ذاتها للمستشار سامي عبدالله المغلوث، لتوثيقه البديع لتاريخ العالم الإسلامي من خلال إعداد أكثر من أربعين أطلسًا تاريخيًا نُشرت وترجمت عالميًا. أما جائزة الدراسات الإسلامية التي تناولت موضوع "آثار الجزيرة العربية"، ففاز بها كل من البروفيسور سعد عبدالعزيز الراشد لجهوده في دراسة النقوش الإسلامية، والبروفيسور سعيد فايز السعيد لأعماله المقارنة في تاريخ النقوش والكتابات القديمة، وفي فرع الطب، حصل على الجائزة البروفيسور ميشيل سادلين من كندا، تقديرًا لأبحاثه الرائدة في علاجات "CAR-T" المناعية المستخدمة في أمراض السرطان والمناعة الذاتية، وفي فرع العلوم وتحديدًا في مجال الفيزياء، منحت الجائزة للبروفيسور الياباني سوميو إيجيما، مكتشف أنابيب الكربون النانوية، وهو الاكتشاف الذي فتح آفاقًا جديدة في علوم المواد والتقنية الحيوية، أما جائزة اللغة العربية والأدب فقد حُجبت هذا العام، لعدم ارتقاء الأعمال المرشحة إلى مستوى المعايير العلمية والفكرية التي وضعتها الجائزة. إرث يتجدّد كل عام مع ختام حفل هذا العام، أكدت الأمانة العامة لجائزة الملك فيصل تقديرها لكل من ساهم في الترشيح والتحكيم والتغطية الإعلامية، ليبقى هذا الحدث شاهدًا على التزام المملكة بدورها الحضاري والعلمي والإنساني في تكريم الإبداع، وتعزيز التميز، وصياغة مستقبل يليق بتاريخها وتطلعاتها.