كارثية الزواج المبكر.
تنشأ المجتمعات على محددات وأفكار معينة، ثم تحصل لها تغييرات عميقة، فتظهر الإشكالات مع تلك المنعطفات الزمنية كثمن ثقافي لعدم تحديث تلك المحددات والأفكار والتصورات، والتي يكون الوفاء لها أحياناً نقطة قلق وتوتر عند كثيرين، وأحياناً يكون الإمعان في التعصب لها مجرد نكاية فيمن ينتقد تلك الأفكار ويطرح إشكالاتها التطبيقية في أزمنة مختلفة جذرياً عن أزمنة تشكّلها كثقافة، وأفكار، ونمط تفكير. وبرغم الارتطام المستمر بتلك الإشكالات، إلا أن دوافع الخصومة الفكرية، ومنطق القلق والتوتر من الانتقاد، أكبر من كل النتائج الكارثية التي لا تخفى، ولكن لا يراد أحياناً التصديق بأنها نتائج تلك الأفكار (المقدسة) نفسها. وبالمثال يتضح المقال، ولكن سأقتصر فقط على أمثلة مشاهدة ومباشرة من الحياة المجتمعية اليوم، وكما جاء العنوان، فمثلاً فكرة التزويج المبكر للأبناء، أولاداً وبناتاً، والاستعجال على إقحامهم في تعقيدات الحياة الزوجية في سن مبكر، هي واحدة من أسوأ الممارسات التي لا تزال شرائح واسعة من المجتمع مستمرة في العمل بها. لقد كان مفهوم الزواج المبكر مقبولاً جداً، وطبيعياً، ومتناسباً مع نمط حياة أزمنة ماضية، دون حدوث أية إشكالات من أي نوع؛ وذلك بسبب طبيعة الحياة غير المعقدة، وكذلك الثقافة الاجتماعية والمعيشية التي ترسم حدود التعامل، وتفرض على الكل منهجية معينة وأدواراً مرسومة بعناية، لكن كل ذلك قد حصل فيه انقلاب عنيف وشامل مؤخراً، ولم تعد تلك الثقافة المصممة مسبقاً على قواعد منطقها الزمني بقادرة اليوم على صناعة تلك المنهجية الحياتية الملائمة لمنطق زمنها، ولا حتى تقديم الحلول بشأنها، بل تحولت في بعض الأحيان إلى ثقافة متوترة؛ إمعاناً في المقاومة، ورفضاً للمنطق الزمني الجديد. تظهر كارثية هذا الزواج المبكر في أنه، في أحيان كثيرة، مجرد أنانية كبيرة من الأهل؛ لرغبتهم الشديدة في الفرح بأبنائهم، وقد لا يكون الأبناء مستعدين نفسياً للزواج، لكن رغبة الأهل في الفرح بأبنائهم تسيطر في بعض الأحيان على قرارات الزواج في تلك الأسر، فيفرح الأهل، مؤقتاً، كي يعيش الأبناء تعاسة أطول. وبرغم تفهمي لتلك الرغبة لدى الأهالي في الفرح بأبنائهم، إلا إن هذه النسب المهولة في الطلاق في السنوات الأخيرة يفترض بها أن تسائل تلك الثقافة المجتمعية حول الزواج، وتغمد فيها الأسئلة الجادة والصريحة، وتهذب قليلاً تلك الأنانية لدى الأهل، فكل مأساة مجتمعية ليست إلا نتيجة (ثقافية) لأفكار ووعي مجتمعي تأخر كثيراً في تلقّي واستيعاب رسائل الزمن المعاصر وقواعده وتعقيداته الجديدة، وهذه النسب المرتفعة في الطلاق ليست إلا ثمناً ثقافياً لأفكار حاضنة. كما لا يزال لدى كثير من الأهالي قلق بالغ لدرجة الوسوسة من الغرائز الجنسية للأبناء، وهذا ليس إلا دليل فشل تربوي في بناء شخصية الابن أو البنت بناءً يجنّبهم من الاعتقال لدى تلك الغرائز أو الغرق فيها، والانشغال بتحقيق الذات وبناء المستقبل، فيراد حل ذلك الفشل التربوي بالزواج، ثم يحصل أحياناً، وربما غالباً، الفشل في ذلك الزواج، فيظل الابن أو البنت، في دائرة مفرغة، فلا حصل الوقت الكافي لبناء الذات، ولا حصل النجاح في الزواج والاكتفاء به على الأقل. والكارثة الأكبر عند البنات تحديداً، وبالذات حين لا تُمكن الفتاة من الوظيفة أو مواصلة الدراسة، ويكتفى في تقرير مصيرها بالزواج الذي سيكون بطبيعة الحال مصيراً (على كف عفريت)، ثم يحصل أن تُطلق في سن معينة لا تتمكن فيه من العمل أو مواصلة التعليم، ويكون في رقبتها عدد من الأطفال، وحينها.. لا الأسرة التي اضطرتها للزواج، ولا المجتمع الذي تمت مجاملته ومراعاته على حساب مستقبلها، ولا القبيلة، سينقذونها من هذا الارتطام العنيف بالحياة وحاجياتها ومتطلباتها. أخيراً.. بقي أن أشير إلى أن فكرة الزواج برمّتها ليست صالحة لكل البشر مطلقاً، فهناك بشر لا يصلح لهم الزواج بتاتاً، ذكوراً وإناثاً على السواء، وذلك لأن تركيبتهم التي وجدوا بها غير مستعدة إطلاقاً للانسجام مع فكرة الزواج ومترتباته. والفكرة الدارجة التي تجبر هؤلاء على الزواج قسراً مثل مقولة: (أنجب أبناءً يكونوا لك سنداً في شيخوختك) هي فكرة من أكثر الأفكار سذاجة وخداعاً؛ وذلك لأنها تتغافل عن حقيقة أن هؤلاء الأبناء سيكون لهم حياتهم وانشغالاتهم ومسؤولياتهم، في أزمنة ستكون أكثر تعقيداً، وفي الأخير لن يكون سنداً واقعياً سوى خادمة أو ممرضة، هذا على افتراض الوصول إلى سن الشيخوخة مع الاستمرار في إهمال الجسد والصحة، وهذا لا يحصل إذا كانت هناك محافظة على نظام صحي جيد.