
عندما يتلاقى فضول العالِم مع بصيرة الباحث، يولد اكتشاف قد يغير ملامح المستقبل. هذا ما فعله البروفيسور الياباني سوميو إيجيما، الذي فتح نافذة جديدة على عالم لم يكن يُرى بالعين المجردة، لكنه اليوم يشكل لبنة أساسية في التقنيات الحديثة. فاز إيجيما بجائزة الملك فيصل للعلوم لعام 2025، تقديرًا لاكتشافه الرائد لأنابيب الكربون النانوية، والتي غيّرت وجه فيزياء المواد وفتحت آفاقًا غير مسبوقة لتكنولوجيا النانو. سيرة حافلة بالعلم وُلد سوميو إيجيما في عام 1939م في محافظة سايتاما اليابانية، وبدأت رحلته مع العلم في جامعة الاتصالات الكهربائية بطوكيو، حيث حصل على درجة البكالوريوس، ثم واصل دراسته العليا في جامعة توهوكو، ليحصل منها على درجة الدكتوراه في الفيزياء. سافر إلى الولايات المتحدة ليكمل أبحاثه ما بعد الدكتوراه في جامعة ولاية أريزونا، وهناك صقل أدواته في عالم المجهر الإلكتروني، الذي سيكون أداته السحرية لاحقًا لاكتشاف مذهل. اكتشاف غيّر قواعد اللعبة في عام 1991م وأثناء بحث روتيني في بنى الكربون، اكتشف إيجيما بالصدفة هياكل أنبوبية فائقة الدقة، تتكوّن من طبقات من الكربون ملفوفة بأسلوب منتظم ومذهل، لم يكن العالم قد رأى شيئًا يشبه هذا من قبل، وكان إدراك إيجيما لما تعنيه هذه البنى هو ما جعل من اكتشافه لحظة مفصلية في تاريخ علوم المواد. أنابيب الكربون النانوية لا تُرى إلا بمجاهر متقدمة، لكنها تحمل خصائص لا تُضاهى؛ فهي أقوى من الفولاذ بمئات المرات، وأفضل في التوصيل الكهربائي من النحاس، وتجمع بين الخفة والصلابة في آنٍ واحد. هذه الخصائص جعلت منها مادة ثورية، وأدخلت العالم في عصر جديد من المواد النانوية أحادية البعد. ما بدأه إيجيما في مختبر صغير امتد أثره إلى كل زاوية من زوايا التكنولوجيا الحديثة. في عالم الإلكترونيات، صارت أنابيب الكربون النانوية مكونًا حيويًا في تصنيع شرائح أكثر كفاءة وأصغر حجمًا. وفي مجالات الطاقة، ساعدت هذه الأنابيب في تطوير بطاريات ذات سعة أكبر وشحن أسرع. أما في الطب، فقد فتحت آفاقًا جديدة لتوصيل الأدوية إلى الخلايا بدقة متناهية، ومثّلت أملاً واعدًا في علاج أمراض مستعصية، وقد تجاوزت مساهماته الجانب النظري، لتصبح جزءًا من ثورة تطبيقية تُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. ومع اتساع رقعة التطبيقات، يزداد الاعتراف الدولي بقيمة هذا الاكتشاف الذي لا يزال يثمر حتى اليوم. تتويج مستحق منح البروفيسور إيجيما جائزة الملك فيصل للعلوم لهذا العام يأتي بوصفه تكريمًا لرائد أسس فصلًا جديدًا في علم المواد. هذا التقدير ليس الأول في مسيرته؛ فقد نال قبلها جوائز مرموقة، منها جائزة كافلي للنانوتكنولوجيا، وجائزة بالزان، ووسام الثقافة الياباني، وغيرها من الجوائز التي تحتفي بإنجازه العلمي ومكانته الأكاديمية، ورغم ما بلغه من مجد علمي، ظل إيجيما مثالًا للعالم المتواضع، الذي يرى في العلم رسالة تتجاوز المختبرات، وتسكن قلب الحياة اليومية، لتمنح الإنسان أدوات جديدة لفهم الكون وإعادة تشكيله. قليلون هم الذين استطاعوا تغيير مسار المعرفة البشرية، والبروفيسور سوميو إيجيما واحد من أولئك النادرين. اكتشافه لأنابيب الكربون النانوية لم يكن مجرد سبق علمي، بل كان لحظة ولادة لتقنية تخطّت حدود التوقع. واليوم، وبينما يُكرّم بجائزة الملك فيصل، فإن صدى إنجازه لا يزال يتردد في مختبرات العالم، وبين أيدي العلماء الذين يبنون على إرثه، ويواصلون رسم ملامح المستقبل بخيوط من الكربون، نسجها إيجيما ذات يوم.