لم نعهد أن يكون اسم رجل أعمال وعمله معروفا لكافة أبناء وطنه مثل هذا الرجل، وحصل هذا في فترة مبكرة جدا من حياته، وكانت أعماله مما يمس حياة أي مواطن، وقد رأى الناس في أعماله إجادة لم تكن قبله، فقد رأى قليلون فيها ما يُنتقد، يقول هو بنفسه: (بعض الناس لم يفرقوا جهلا أو عمدا بين الاحتكار و الجلب، وارجو أن تكون كل أعمالي تحت لفظ الجالب وليس المحتكر، فيوم لم تكن في الجامعة آلة نسخ جلبت الآلة وطبعت للطلبة ما فاتهم من محاضرات، وحين لم يكن بالعاصمة مطبخ خارجي أو مشغل نسائي أقمت المطابخ والمشاغل، وعندما لم يكن في المملكة بريد يوصل رسائل الناس في هذا البلد الذي يشبه القارة أوجدت -بفضل الله- البريد الطواف، ولما ضاقت الأحمال بأمانات المدن وبلدياتها، وارتفعت أكوام القمامة كالجبال أسهمت في شركات النظافة، وفي الزمن الذي كانت فيه المطارات والمنشآت تُصان عن طريق شركات أجنبية بمئات الملايين ربحت صيانتها رغم ما فيها من تحديات بعشرات الملايين مؤسسا لفكر الصيانة في البلد، إن الأولوية لا تعني أبدا الاحتكار لكنها نوع محمود من الابتكار). هذا الكتاب يشمل سيرة صالح عبدالله كامل، كتبته ندى عيد، وهي كاتبة متخصصة في كتابة السيرة، ولذا فإن المهنية واضحة في طريقة الكتابة وشموليتها لكافة مناحي حياة الرجل، استغرقت الكتابة سنتين، تراجع ما كُتب عن الرجل و وثائقه وتسجيلاته، والمحاضرات والكتب التي تناولت أعماله، إضافة إلى مقابلة خمسين من أفراد عائلته. وإذا كنا نعلم أن الرجل مكي، فإننا نعلم ما يعنيه ذلك في أذهان الناس، فأقل ما يطلبونه في ابن مكة أن تكون له أخلاق الصالحين، ويحاسبونه بمثاليات لا يطلبونها في غيره، والرجل كان واعيا لذلك حريصا عليه، كما نرى في حياته الثرية والتي امتدت أكثر من تسعين عاما. كانت بيئته العائلية بيئة توفر له قدرا كبيرا من المفاهيم الصحيحة في الحياة وتمنحه خبرة متميزة، جده كان مسؤولا عن إجازة من يُسمح لهم بالتدريس في الحرم المكي، أما أبوه فقد كان عصاميا، أجبرته الحاجة الى التوقف عند الصف السابع من الدراسة ليعمل بجنيه في الشهر، ولكن طموحه لم يتوقف فقد انتقل إلى مهنة أهل مكة في الطوافة، وهذه مهنة تجمع العلوم والخبرات وقد تخرج منها أيضا أبناؤه، وما أن وجد فرصة في العمل الحكومي حتى استبانت مواهبه. عمل في الحكومة أربعة وأربعين عاما تدرج فيها من كاتب قيد إلى أن أصبح أمينا لمجلس الوزراء، وحاز ثقة الملك فيصل الذي عمل معه تسعة وثلاثين عاما، في الكثير من السير ترى ما قاله رسول الله من أن كلأ ميسر لما خُلق له، فالفتى صالح، وقبل أن يصل إلى المرحلة الجامعية وتقليدا للمجلات المصرية التي قرأها عند عمه عبدالسلام، أنشأ مجلتين هما مرآة البعثات، وألوان، وباع أعدادا منها، وعندما انضم إلى الكشافة ولاحظ غلاء أدواتها، استدان ثلاثة آلاف ريال حولها إلى لبنان واشترى أدوات الكشافة والأدوات الرياضية، وربح فيها وأسس متجرا للأدوات الرياضية، وقد نقلنا قوله إنه أسس مطبخا و مشغلا للملابس النسائية في الرياض خلال دراسته الجامعية. ثم أتيح له، ومن خلال ممارسة العمل الحكومي، التنقل بين دوائر الوزارات المختلفة كممثل لوزارة المالية، ليفهم حاجيات البلد والفراغات التي تحتاج لمن يملؤها، فكانت بداية معظم نشاطاته التي بدأ فيها، عمل شركة “دلة” في الصيانة والتشغيل. ولعله اكتسب منها مهارة اكتشاف حلول للمشاكل فعندما كان ميناء جدة أصغر من أن يحتمل كثرة السفن، وكان انتظار بعضها للتفريغ يمتد أشهرا، فقد وجد الحل، وكان أن استخدم طائرات الهليكوبتر في تفريغ السفن البعيدة عن الأرصفة، واستمر هذا العمل سنتين، بعدها كانت أرصفة الميناء قد اكتملت. احد أسرار نجاحه هو علاقته بموظفيه التي تتجاوز مسألة أجر مقابل عمل، فهو يقيم ناد لهم، كما يقيم صندوقا خيريا لمساعدة من يحتاج منهم، ويحرص على ألا ينتهي عمل موظف إلا بعد أن يجد وظيفة أخرى، وقد أوكل إلى أحد المتخصصين مهمة إعادة تخطيط الجهاز الوظيفي، فأوصى بالتخلص من بعض الموظفين وعلق بأن دلة البركة قد أصبحت جمعية خيرية، ولكن صالح كامل رفض لاعتقاده بأنه إنما يرزق بما ينشئ من أعمال تخلق للناس وسيلة للرزق، وهذا في مفهومه هو معنى الاستخلاف في الأرض، كان التدريب ركنا أساسيا في شركاته، وكان مهتما بالسعودة قبل أن تصبح سياسة للدولة، يذكر ممثله في مصر أنه عندما عرف الموظفون بأنه ذاهب لعيادة الشيخ صالح الذي أُدخل المستشفى في فرنسا، كل موظف كتب رسالة فيها دعوات وأمنيات، حمل معه ثلاثة آلاف رسالة قرأها الشيخ وهو يبكي من فرط السعادة، لما أحسه من رضا الموظفين عن عملهم. وكان الشيخ يذكر أنه إنما يرزق بدعاء موظفيه وحبهم له، تروي ابنته أن العائلة وبعض الموظفين كانوا في أحد مطاعم الإسكندرية، عندما جاء رجل يقول: إنني مظلوم يا شيخ صالح، لم يغضب وإنما ترفق بالرجل وفهم الحكاية من مديرة هذا الرجل التي كانت متواجدة، وهنا أوعز إلى مرافق بتحرير شيك بكل ما ادعاه الرجل، وهنا ثارت ابنته لأنها رأت أن يحقق في قضيته أولا فقال لها: إن كنا ظلمناه فقد تخلصنا من الظلم، وإن أخذ الرجل ما ليس من حقه فحسابه على الله. إيمانه بالدور الاجتماعي لرجل الأعمال دفعه لإنشاء شركة لتنمية المهارات البشرية ومعهدا صحيا وأكاديمية للعمل التطوعي. تفكير الرجل الاستثماري يتولد من معرفة عميقة بأحوال المجتمع مثل مشروعاته في درة العروس و درتي: الرياض، والبحرين، ولقد بلغت جرأته أن أخذ مشروع بحيرة القرن في تونس التي لم يوافق البنك الدولي ولا شركات أوروبية على العمل عليها، وتم على يده تحويل بحيرة كانت مصدرا للأمراض والمياه الآسنة إلى مركز حضاري واقتصادي وسياحي أنيق. استضاف الشيخ الشعراوي في منزله يوما، فسألته أمه بحضور الشيخ: إذا ما كان يتعامل مع البنوك الربوية فقال: إنه لا يأخذ فوائد على الأموال التي يودعها، و لكنه مضطر إلى دفع الربا إن استدان منها أموالا، قالت: هذا حرام، قال الشعراوي: الاضطرار أنك ستموت من الجوع أو ستموت من البرد، لكن الاضطرار ليس أن تزيد ثروتك، ومن يومها بدأ في التفاوض مع البنوك على أساس المرابحة، ثم بدأت سلسلة بنوك البركة التي تجدها في كثير من البلدان: مصر، تركيا ، ماليزيا ، كازاخستان، وحدث مرة وهو عائد بطائرته من غرب الأطلسي أن رأى صحراء فيها أعشاش فسأل عنها، فقيل له: هذه موريتانيا، فطلب من الطيار أن يهبط فيها، وما إن هبط حتى كان جمع من رجال الدولة في استقباله، وكانت ثمرة زيارته بنك البركة الموريتاني، لم يكن نشاطه مقتصرا على البنوك، فقد رتب لمجموعة من الندوات تعقد سنويا لمناقشة أمور الاقتصاد الإسلامي وأسس معاهد تتبع جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبد العزيز وجامعة الأزهر ليتحول الاقتصاد الإسلامي إلى علم مستقل. أبواب الكتاب عن جهوده في الاقتصاد مهمة جدا للمتخصصين ولغتها أقرب الى لغة الاقتصاد المتخصص. وهناك كلام مهم ذكر عن نقاش حول الاقتصاد الإسلامي مع رئيسة وزراء ألمانيا، جعلت بعده الاقتصاد الألماني يعتمد على القاعدة التي تعلمتها الرئيسة من صالح وهي أننا لا نبيع ما لا نملك، كما طلب وزير مالية روسيا معلومات عن الاقتصاد الإسلامي فعقد دورة في مصر استغرقت أياما للمسؤولين الروس الذين أدهشتهم أبعاد معنى الاقتصاد الإسلامي. ثم دخل عالم الإعلام، يقول: “ الإعلام سلاح خطير لا يجوز تجنبه، بل يجب الغوص فيه لإصلاحه، إذا ابتعدت عنه أصبح ثوبي نظيفا في مفهوم البعض، كالسيل الملوث الذي فيه غريق. وأنا بجانب النهر، بإمكاني أن أرمي فيه نفسي فيتسخ ثوبي، ولكن أنقذ الغريق، هذا هو المسلم الإيجابي الذي نريد”. وهذه فلسفة راقية جدا، ظهرت جلية في مشروعاته الإعلامية، وقد عانى كثيرا من اضطراره لتشفير قنواته، كان كثير الاهتمام بقناة الأطفال لخطورة ما تقدمه وحرصه على ترسيخ القيم الإسلامية في هذا السن الخطير، كانت الدقيقة الواحدة من الإنتاج للأطفال تكلفة ستة آلاف دولار، تحمل الكثير في سبيل استمرارها، أما قناة الرياضة فقد مولت الكثير من أنشطة الدوري في العالم العربي، وبعد أن استقرت باعها لقناة الجزيرة فعوضه الله خيرا، وأما قناة الموسيقى فقد تخلى عنها لمستثمرين آخرين، بعد أن خشي من الانفلات الذي ظهر بالفيديو كليب ولم يكن راضيا عن المحتوى الذي يراه الآخرون إبداعا في إطار المنافسة. والسيرة بالغة الثراء وفيها الكثير مما يستوقف القارئ، وكنت أتمنى أن تتاح لعدد أكبر من القراء، و لكن السعر الذي تباع به ثقيل على الناشئة الذين إن قرأوه فقد وصلتهم رسالة الرجل الأخلاقية. وتلك التي كان الرجل يحرص على إيصالها لكل العالم. رحم الله رجل الخير والمال و الأعمال صالح عبدالله كامل.