“فيلم باري ليندون تحفة سينمائية معتقة”.

الكثير من روايات الأدب الروسي أو اللاتيني أو حتى الاوروبي والعربي، لم تصل إليها أيدينا بعد، وغاب عنا الشعور بلذة الحكاية الآتية من الآخر وبالحياة التي تعج بتفاصيل لاتشبه تفاصيلنا المعتادة، وبأسماء قادمة من بقعة مكانية بعيدة وبألوان وعادات وروائح مختلفة عنا تماماً، ولا يجمعنا معها إلا الحكاية الشعورية المشتركة الفرح أو الحزن، الخيبة أو الأمل، والنجاة أو الهلاك، وهنا تكمن روعة الأدب وعبقرية السينما، ولأن المصير الإنساني واحد مهما اختلفت الحكايات وتعددت الألسن، ولأنه من الصعب جداً إدراك الثقافات الأخرى ولملمة ما فيها من تفاصيل، تأتي السينما لتبسط الحكاية وتفككها وتخرجها من قدسية الورق إلى ضوء الشاشة، إلى المسارح إلى الحياة، فتتماس تلك الحيوات البعيدة مع حيواتنا اليومية لنقرأها بطريقة أخرى وبلغة أخرى، وأجمل الأفلام وأنجحها على الإطلاق هي تلك التي تمت حياكتها من مصدر ورقي، ونفخت الحياة فيها لتأتينا حية تختصر علينا مئات الصفحات بفيلم لا تتجاوز مدته الساعتين أو ثلاث، وأنا هنا لا أقارن بين فكرة أن تقرأ القصة أو تشاهدها فللقراءة لذتها الخاصة وطقسها المتفرد، لكن انتشارها عبر الصناعة السينمائية سيكون أكبر ويجعل من وصولها إلى طبقات مختلفة من الناس أمراً أكثر سهولة ومتعة. والفيلم الذي سأتحدث عنه هذا الأسبوع هو فيلم روائي طويل زمنه ثلاث ساعات وهذا وقت طويل جداً لمشاهدة فيلم، لكنها ثلاث ساعات من المتعة البصرية والسمعية. فيلم “رباري ليندون” الذي أنتج عام 1975م بإخراج عبقري وصورة بهذا الصفاء والجمال وصوتيات عظيمة في كل فصل من فصول الفيلم، واحد من أجمل أفلام القرن وأكاد أجزم أن صناع الفيلم لم تفتهم أي تفاصيل ولم يتركوا خلفهم ما يخل بعظمة هذه التحفة السينمائية الأقرب للكمال، القصة مأخوذة عن رواية “حظ باري ليندون” وهي رواية سيرة ذاتية بطابع ساخر، للكاتب البريطاني “وليم ثاكري” والتي تستند على حياة المغامر الأيرلندي “أندرو روبنسون ستوني”. عمل سينمائي متكامل متماسك يأخذك في رحلة مع البطل سيء الحظ “باري ليندون” منذ لحظات البراءة الأولى والمراهقة والطيش ولحظات الحب المندفع، إلى لحظات العجز الأخيرة، حياة حافلة بالمغامرات والتجارب والنقلات في كل فصل من فصولها، والحبكة الجميلة تجعلك تتعايش مع هذه الرحلة التي كانت مأساوية في الكثير من لحظاتها لكن دون المساس بقلبك، دون أن تفقدك لذة الاستمتاع بمشاهد الريف الإيرلندي، أو المروج الإنجليزية، أو فخامة القصور الارستقراطية والاستمتاع بالحوارات البعيدة عن التعقيد، والمقطوعات الموسيقية المبهرة، تجربة سينمائية كاملة لا تشوبها شائبة، في زمن يعتبر إلى حد ما زمن المحاولات السينمائية. قصة الفيلم كما أسلفت مقتبسة من رواية بريطانية معروفة، والتي تسرد سيرة “باري” الذي ينشأ يتيماً مع والدته التي تكرس حياتها من أجله، ويقع في حب ابنة عمه التي تخذله حين يتقدم لها شخص أعلى شأناً منه، فيقتله ويخرج هارباً من ايرلندا ليلتحق بالجيش الإنجليزي، ويتورط في الانضمام كذلك إلى الجيش الألماني بعد ذلك أثناء حرب السبع سنوات، وأول فرصة سمحت له بالنجاة من صفوف الجيش كانت بالعمل كمقامر، ثم بطريقة ما يتزوج من أرملة جميلة وثرية، ويملأ الجشع قلبه بعد أن أصبح ثرياً، ويسعى للحصول على اللقب ويسيء معاملة ابن زوجته، مما يجعل من هذه العداوة المسمار الأول في نعش باري، الذي كانت نهايته أقل بكثير مما كان يتوقع ويظن، ليعود في نهاية المطاف وحيداً فقيراً معدماً إلى إيرلندا كما خرج منها أول مرة. صدر الفيلم عام 1975 كتبه وأنتجه وأخرجه “ستانلي كوبريك” وهو مخرج ومنتج ومصور أمريكي حائز على جائزة الأوسكار، وهو من أعظم صناع الأفلام في التاريخ، من بطولة “رايان أونيل”، “ماريسا بيرينسون”، “موراي ملفين”، “باتريك ماجي” و”هاردي كروغر” قام كوبريك باستخدام مقطوعات “باخ” و”أنطونيو فيفالدي” و”جيوفاني بايسييلو”، “فولفغانغ أماديوس موتسارت” وكذلك اللحن العسكري ل “هوهنفريدبرغر” كما قام بإضافة الموسيقى الشعبية الأيرلندية في بعض المشاهد. يقال إن الفيلم لم يحقق نجاحه المأمول في الولايات المتحدة عند عرضه، بالرغم من كل هذا الجهد الذي بذل في سبيل الكمال، لكن الأفلام العظيمة تتعتق مع الزمن ويتم اكتشافها فيما بعد وقد تنجح بعد حين مع زيادة الوعي واختلاف النظر من قبل المتلقي. ختم الفيلم بهذه العبارة “في عهد جورج الثالث عاشت الشخصيات المذكورة وتشاجرت؛ الطيبة أو الشريرة، الجميلة أو القبيحة، الغنية أو الفقيرة، وكلهم الآن سواسية” ويا لها من خاتمة ! باختصار إذا كنت تبحث عن فيلم يملأ حواسك وتعيش معه تجربة سينمائية متفردة ونادرة فهذا هو العمل العظيم هو الخيار المناسب، مشاهدة ممتعة.