قراءة في مجموعة عبد الله ساعد (ألحان سرورية) القصصية..

تصوير مشهدي حيوي ولغة مجازية و معجم بيئي في بنية حكائية سلسة.

يلفت الانتباه في هذه المجموعة القصصية خصائص بارزة : منها البنية المشهدية وفنّيّة التصوير واللغة الكثيفة و النزعة الوصفيّة وتعدّد الثيمات و تنوّعها ، وتماثل المساحات من حيث الحجم واللقطات من خلال الرصد . في القصة الأولى التي تحمل عنوان المجموعة ما يمكن أن نسميه (القصة المشهد) ومن أبرز ميزات هذا النوع من القصص أنه يقدّم لك صورة في مرآة مقعّرة تجمع عناصرها و تؤلّف بين علاماتها لتفضي برؤية الكاتب دون إمعان في البيان و التوضيح ؛ والتركيز في هذا اللون من القصص سرّ بنيته الجمالية ؛ فهي تختزل اللغة في بضع كلمات لها خصوصيتها البيئيّة التي تدلّ على طبيعة الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و النفسية ؛ فنحن إذا التقطنا كلمات ، مثل ( الركيب ) وتعني الحقل الكبير كما هو مدوّن في الهامش، وإذا بحثنا عن دلالاتها المتعددة نجد أنها ذات خصوصيّة بيئية؛ فالركايب تطلق على المدرّجات الزراعية التي تشهد على تكيّف الإنسان من عقود مع طبيعة وبيئة منطقة (السودة) و رجال ألمع وتوظيفها وفق متطلبات معيشته ، وأصلها الأرض الزراعية التي طالت أطرافها وتدرّجت بالتجاور مع ركيب آخر في شكل جداول ؛ فالركيب المزرعة من النخيل وغيرها، وما غُرس سطراً على جدول ، و ما بين البساتين من النخل والكرم ، كما جاء في المعجم الوسيط ، ثم (المَعْشَبة ) وهي مجموعة من النباتات العشبية ، وقد أصبحت مصطلحاً علميّا وله دلالات مخصوصة لا أعتقد أن الكاتب يعنيها ؛ وإنما ذكرها بوصفها مفردة شعبيّة لها دلالتها الخاصة في البيئة الزراعية الجنوبية من المملكة ، وكلمة (مِكتل) اسم آلة ،و هي قُفة من ورق النخيل يُحمل فيها التمر أو نحوه ، وهي ذات دلالة مرتبطة بهذا المعنى في القصة ، كلمة فصيحة لها جذورها وفق المعاجم العربية ؛ ويطلق لفظ (المقطف في البيئة الشاميّة) يؤدي المهمة نفسها من حيث نقل المحاصيل أو الأتربة كما في هذه القصة ؛ ولكنها مصنوعة من (الكاوشوك) في أغلب الأحيان ، وتستعمل لنقل مواد البناء أو الأتربة أو الحصى والأنقاض ، فهي - هنا - ذات سمة بيئيّة زراعيّة خاصة ذات علاقة بتنقية التربة واستصلاحها. أما البعد النفسي فيتمثل في تصوير ردّات الفعل التي تمثّلت في التقاط حركة (الابن المراهق) الذي كان يساعد أباه في هذه المهمة بلا رغبة و بامتعاض شديد وردّة الأفعال عند والده التي تعبّر بدقّة عن شعور الأب وحرصه على مشاعر ولده، على الرغم من قيامه بحركات استفزازيّة تثير غضبه المكتوم ، وهنا تعبير دقيق عن تلك العلاقة الأسريّة التي تعكس طبيعة الناس في هذه المنطقة الجنوبية الزراعية بما تنطوي عليه من رقّة في الأحاسيس و السلوك ، وقد نوّع الكاتب في أسلوب السرد فجعله على لسان الراوي العليم تارة ، ومن خلال الراوي المشارك بضمير المتكلم في شكل اعتراف على لسان مراهق طوّحت به في مضطرب السلوك تارة أخرى،وهو يقف على حافة الرجولة ، مشاعره مرتبكة ونوازعه متقلّبة على الرغم من ملاحظات الأب التي يبديها في رفق مقابل طيش الابن ونزقه ، تصوير عميق لما يدور في نفس هذا الثنائي (الأب و الابن) ، وقد استثمر الكاتب المدى الزمني، وكأنه يوازي بين حِدّة المراهق وطيشه و الشمس في رابعة النهار وحرارة أشعتها (وهذه الموازاة بين حالة الطبيعة الكونية و المزاج البشري واضحة في عدد من قصص المجموعة) وكذلك الموازاة بين وقت العمل في الأرض ومرحلته العمريّة حيث الحدود الفاصلة بين الطفولة المتأخرة و الرجولة المبكرة ، وكانت الخاتمة خلاصة تنويريّة لمجمل الدلالة في هذا المشهد في لوحة فنية : “ومضى عائدا و أنا أتبعه تصهد في هاماتنا الشمس و في أعطافنا يستكنٌّ التعب” في قصة (سارق الكحل) ينحو السبيل ذاته في تصوير المشهد ؛ ولكنه -هنا - ذو طابع ثنائي يختلف عما سبقه ؛ فإذا كانت القصة الأولى ذات فضاء زراعي يجمع بين بهجة الطبيعة وكدّ السواعد فهو -هنا - يقدّم (بورتريه) لشخصية مجرم سارق يسطو ويسلب بعكس ما كان عليه الأمر في القصة السابقة ، هنا تضيق المساحة حتى تقتصر على زقاق ضيّق وخنجر وعيون فاجرة وسطوة شرسة؛ ففي مقابل العطف و الحُنُوّ من الأب في القصة السابقة يأتي العنف و الوحشية و الطفولة المرعوبة و السطو المسلح و الإنسانية المستلبة و الخوف الرابض ، وصفٌ دقيق لوجه لصٍّ سرق الكحل من عيون أنثى يظن أنها ظالمة ، سرقة للجمال و البراءة ، وفي المقابل حيث يبدو المشهد مضاعفاً تبدو صورة الأب في قضائه للحوائج واصطحابه الحاني للطفل : صورتان نقيضتان ، براعة في التصوير و دقة في التعبير . على النسق ذاته تتشكّل بنية السرد عبر المشهد الحي ، وتحفل بكل ما يؤكّد خصوصية الانتماء و أصالة الموروث ، معجم جديد ينتمي إلى ثقافة المكان وتاريخيّة النزوع إلى الجذور ، ميدان جديد وحقل دلاليّ آخر ، وما بعد الزراعة يأتي الصيد مصدراً من مصادر الرزق ، وتتعاقب الأجيال و تتفاوت القدرات وتأتي لحظة التنوير كاشفة عن مستوى المهارات و القدرات ، الرؤية الفلسفية التي تلخّص حكم الزمان ومصائر الأحياء وتفاوت الأجيال في حيّزٍ مكانيٍّ مخصوص ؛ ففي قصة (القناص ) تصوير للمظهر تنعكس عليه مكنونات المخبر ، وما يستكِنُّ في الأعماق ، و ثمة تداخل بين السّحنة البشريّة من وشم يحمل بصمة الثقافة الشعبية ومظاهر الطبيعة الكونيّة ، مصطلحات مهنيّة شعبية تتعلق بالصيد و قاموسه الحِرَفي ( البورنو) بندقية الصيد بسحّابها الأصفر الأنيق و (المِحجاة) التي يركن إليها متربّصاً بما يؤيّد اصطياده و(المعبر) وهي الرصاصة الحية و(الزرفال) قفل مخزن الرصاص، مقاربة هادئة منتظمة في سياق سلس يفضي من مشهد إلى آخر، يطوف بك عبر فضاء يجوس خلال دواخل نفسيّة تستشعر التحوّل من حال إلى حال ومن مدٍّ زماني ومكانيٍّ إلى آخر، و كأنك تشاهد فيلماً سينمائيّاً جيد الإخراج متقن السيناريو. وفي قصة (الإبريق) حكاية تستثمر تقنية القصة القصيرة فتراه يملؤها بلحظات التوتر ، و ينتهي بها إلى لحظة يتنفّس فيها قارئها الصُعداء ، شخصية ترتسم بأناة وتتشكّل عبر الحركة كما أكّد على هذه التقنية في رسم الشخصية فنِّياً - في حديثه عن مقومات هذا الفن - الدكتور رشاد رشدي في كتابه الرائد (فن القصة القصيرة) وعبّر عن ذلك بضرورة تقديم الشخصية في القصة وهي تعمل، وبالفعل قدّم لنا الكاتب الشخصيّة في موقفين يميطان اللثام عن طبيعتها النفسية وسماتها الظاهرة و الباطنة، مفعمةً بالحركة في مشهدين: الأول وهو في زياراته التقليديّة حيث يتكاثف الغموض وتزداد شهية حبّ الاستطلاع عند القاريء؛ ولكن الكاتب يبخل بكشف اللثام عنها على لسان صاحبها؛ بل يعمد إلى ذلك عبر الفعل في لحظة الختام حين يحاول أن يهوي بمطرقته على ابريق جدّته فيخطفه بعد أن يحشد من التفاصيل حوله حتي تنفجر اللحظة الختامية بالمفاجأة المذهلة . وفي منحى بنائي آخر يسلم الشاعر قلمه لما يتحدّر عبره من شلال الخواطر في لحظة سديميّة بين اليقظة و النوم ويتهجّاها حتى آخر كلمة ، التماعةٌ بارقة في لحظة خارقة لزمن مضى و انقضى ، تلتمع فيه لحظات فريدة يشتمُّ فيها عبق سعادة فائقة ، وينتهي بها إلى حركة رمزيّة تختزل اللحظة بكل شاعريتها في قصة (الوردة البيضاء) دون أن يتخلّى عن حاسّته الوصفيّة التي تلتقط عبر الظواهر الجسدية الخارجية أدقّ ما يجول في نفس صاحبها. وفي انعطافة تستلفت الانتباه يعمد الكاتب إلى التقاط المشهد المزدوج الذي ترتسم فيها الصورة على خلفيّة وجدانيّة تجمع بين نبض الداخل وحركة الحواس ، تُعنى بلغة الجسد وتتابع أدق التفاتاته يمتَحُها من بئر الذكريات و يستمنحها من مذخور السيرة في قصته (ضوء بيتنا) يرقب حركات الأم ويتابعها منذ إطلالته الصباحيّة حتى مفارقته للبيت إلى المدرسة حاشداً تفاصيل العطاء المادّي و المعنوي، راسماً صورة مُنتزعة من واقع البيئة الأم في ذروة بهائها ونفحات برّها. في قصص أخرى يكتفي الكاتب بلمحات سريعة مشيراً إلى عادةٍ موروثة أو حدثٍ عابر مُستلهماً الطقوس و الشعائر التي تصاحب وقائع الحياة و الموت كما في قصة (الاسم حلو) حين يصوّر عزوف الفتاة عن مناداتها باسمها على الملأ خجلاً منه لأنه اسم قديم ، و يصوّر تفاليد الدفن وما إلى ذلك. أبدى الكاتب كفاءة واضحة في تسلسل الوقائع وتتبعّ المشاعر وردود الفعل وتلقّي الصدمات الموجعة ؛ فعبر التصوير الدقيق والإيقاع الخفي النظيم لوقع الكلمات وملامستها لنبض القلب وخفقات الوجدان في قصته (سقط الكلام) المفارقة الصادمة بين الشعور و الواقع : باقة من الورد في عيد الحب يقابلها مكالمة جارحة وخيانة واضحة، وخيبة أمل تمثّلها الباقة الملقاة والصوت المدوي لإغلاق الباب ، وكأنه صفعة موجعة لوجهِ الخيانة . وفي هذا الإطار الذي يندرج تحت لافتة ( الخيانة والغدر) تأتي قصته الثأر التي تنبني على المفارقة واللحظة الفارقة حين يتوازى عصف الطبيعة مع جيشان الشعور ، فالكاتب يقف بنا عند اللحظة الحرجة فيحشد أسباب الترقُّب و القلق ، ويعود بنا عبر تقنية (الاسترجاع ) الفلاش باك إلى وقائع ماضية نتج عنها الموقف، وصوّر قلق الفاعل بموازاة جيشان المطر وصوت الرعد ولمعان البرق ، و التسلل الهاديء طلبا للنجاة ،معبّراً عن التوتر و القلق حين قدّم لنا مشهد الاختفاء لارتكاب جريمة بشأن المستهدف بالثأر ، وهو في ذروة المتعة والاسترخاء . وفي قصة أخرى يمسّ الكاتب وتراً حسّاساً في قلب الأنثى ؛ ولكن من خلال ثنائيّة حواريّة في مشهد صاخب حول الخيانة وانتظار للرحيل ، حراك داخلي وخارجي تنتظم فيه الكلمات وتتصارع على وقع حركة الطيران و المسافرين، قصة تبحر في وعي المرأة وتستقريء دواخلها. وفي تجواله عبر قصص المجموعة بين ثيمات متعددة لا يغفل الإبحار في نفسيّات النماذج التي اختارها ، وهي متنوِّعة في حقول متعدّدة ، وهو ما يحيلنا إلى عنوان المجموعة (ألحان سرويّة) إشارة إلى التباين، وفي ذات الوقت الانتماء إلى بيئة مكانية واحدة. وهكذا تبدو المجموعة سَلِسة في تشكّلها ولغتها التي تتداخل فيها الصيغ المجازية والمفردات البيئية و اللمسات الشعرية.