الشاعرة البحرينية منى الصفار بعد ديوانها الرابع:

الوقوف عند نوع واحد من الكتابة شبه محال.

تكتب الشعر وكأنها في رحلة، لا يهمها الشكل بقدر ما يهمها ان تكون ذاتها في النص، تقول انها كائن نهاري ولكن الليل خلق للشعراء والشوق، تؤكد انها مع الزمن كرها وطوعا وانها حصيلة ذاكرتها وحنينها، الضوء / الشمس لا تفتح ابوابا، بل قد تقلق ابوابا مفتوحة، إلا انها ترى الباب عتبة الطريق للحي والعالم. اصدرت الشاعرة اربعة دواوين شعرية، وترجمت رواية لجين ريز (صباح الخير منتصف الليل) ونحن هنا نحاورها في ديوانها الرابع (ابواب مغسولة بالشمس). * يأتي ديوانك الرابع (ابواب مغسولة بالشمس) ممتلئ بالكثير، شيء من السرد ، الشعر السيرة المحملة بالمكان والناس، محتشد بالحياة؛ ما سر التغيير الكبير في كتابة هكذا نص؟! إن الوقوف عند نوع واحد من الكتابة في وجهة نظري الشخصية هو أمر شبه محال، إن من قواعد الحياة أن تسير مع عجلتها أو أن تتخلف عن مسيرها بوقوفك مكانك، في الحقيقة لا يوجد وقوف في المكان إن الوقوف في المكان هو عبارة عن تخلف عن الركب الذي يستمر في المسير فيبدو للرائي تقهقر للوراء. قد يبدو أسلوب الكتابة مختلفا في نصي هذا إلا أنه لازال يحمل ذات الروح وذات الوجهة وإن اختلفت الطريقة في التعبير فهي لا تزال في جوهرها تحمل منى وتشبهها لمن يعرفها. * انت كائن متعدد، فنانة تشكيلية احيانا، ومترجمة حينا آخر؛ الى اين ممكن ان يأخذك هذا التعدد لما يدعم النص؟ إن الدخول إلى عالم التجريب، هو جزء من البحث عن الذات في داخل النص وفي خارجه. هو في النهاية مشروع الانسان، وإني أجد ان اكثر الشعراء والكتاب والفنانين يعززون هوياتهم الفنية بالتجريب لما في كل لون ونوع من أنواع الفن والكتابة والموسيقى من تداخل. كما أن هذا النوع من التجريب يثري رؤية الانسان للأشياء من زواياها المختلفة ويمنحه أفقاً أوسع لرؤية الأمور من منظورها الأشمل. هو يشبه أن يقرأ الانسان قراءات متعددة في القصة والرواية والسياسة والفكر والفلسفة وغيرها لإثراء تجربته ومنحها العمق الكافي. أجد الكتابة في نهاية المطاف هي حصيلة التجربة. وممارسة الفنون بأنواعها هي نوع من التجريب يفتح أبواباً وآفاقا مختلفة تمنح النص لونه وهويته وعمقه أيضا. * الألوان الأبيض والأسود وما بينهما من رمادي خافت؛ اي من هذه الألوان تخافها الشاعرة الصفار؟! اللون الأبيض هو أكثر الألوان التي ترعبني، هو اللون الذي يشي بالفضيلة المصطنعة، والنقاء الزائف والرؤية غير الواقعية للأمور، الأبيض هو لون الرحيل، هو لون الرياء والمهادنة، لون التقمص لما لا نشبه ونحن نحاول أن نركض وراء صورة الملاك متخففين من إنسانيتنا وحقيقتنا وقصورنا البشري. هو محاولة التشبه لا الحقيقة. وفيما أرى أن محاولاتنا لتغيير حقيقتنا هو المنعطف الأكبر في تجريدنا من ذواتنا. ولا يعني هذا ألا نسعى للفضيلة. إلا أن محاولة إظهار بياضنا على حساب كل لون آخر هي فوقية الكمال والشعور الواعي أو ما دون الوعي لاستصغار بقية البشر هو أن يجد المرء في ذاته تفوقا على حقيقة الآخر و قصوره. * (اعتقد ان الأرق يصاحب الذاكرة الثقيلة، والاشياء التي لا تنسى، ورواسب الحب، والجروح الناتئة)؛ متى يتخفف الذهن والقلب من كل هذه النتوءات؟! لا يتخفف الذهن ولا القلب، ولكن من رحمة رب العباد أن لا تسير الحياة في خطوط مستقيمة، وانما في صورة موجية في ارتفاعات وانخفاضات ولحظات سكينة تتبعها لحظات أخرى، نكبر ونعي خط الحياة وسيرورتها. نحن لا نتخفف، نحن نتعايش، ونتعلم وننضج بالتجربة والألم. إن تعاطينا مع الأمور يختلف مع الأيام، وتعاطينا مع الكآبة لا يفنى ولا يستحدث ولكنه قد يتخذ صورا أخرى، وقد نحاول أن نعبّر عنه لنتعايش معه لا لنهرب منه. إن الفن والكتابة والتشكيل والغناء والموسيقى هو الجانب الروحي من إنسانيتنا، لذلك نجد في هذا ما يصقلها ويقويها عندما تجد نفسها عزلاء أمام خط النار. * الشاعرة الصفار ؛ انت مع الزمن بتحولاته ام مع الذاكرة بخيبتها وحنينها؟ كلاهما جزء من صورة أشمل لا يوجد إنسان بلا ذاكرة، نحن نولد ثم تقوم الحياة بحياكة ذاكرتنا وأفكارنا واحلامنا وخيباتنا ونجاحاتنا وهويتنا، ومساحة الأرض التي نقف عليها اليوم، هي ما دفعتنا له التجربة هي حصيلة الذاكرة والأمكنة ولحظات السعادة المطلقة ولحظات الحزن والإنطفاء. أنا مع الزمن كرها وطوعاً وأنا أيضاً حصيلة ذاكرتي وحنينها. * تخيرت الكتابة في بدايات الفجر الأول او منتصف الليل ؛ هل انت كائن ليلي يهرب من الضوء والضوضاء؟! في الحقيقة أنا كائن نهاري بامتياز، إلا أن الليل بصمته هو صوت القلب، هو هسيس العقل، وهو صوت الحنين، الليل هو المساحة التي نجلس فيها في مواجهة أنفسنا، لذلك نجد العقول المشغولة تنغمس في ظلمته التي تجد فيها مكانا هادئا بما يكفي لمواجهة الذات والتحدث إليها والتعرف عليها من جديد. في النهارات ننغمس في أمورنا الدنيوية وفي الليل وصحوة فجره نجد أنفسنا نتعرى أمام ذواتنا وحقيقتنا التي قد لا يراها سوانا. يقول محمود درويش: “ لماذا لا يشتاقون مثلنا؟ ألا يوجد في مدينتهم ليل!” * المنامة المكان، ما الذي تعنيه لك، ألا يدرب المرء نفسه على التحليق خارج المكان، كالقصيدة مثلا؟ المكان هو القصيدة، التفاصيل هي القصيدة، التعرجات، التشوهات، الصور الغافية في أذهاننا هي القصيدة، المنامة هي فترة تشكيلي وصياغتي، مسقط رأسي والعالم الذي تكونت فيه شخصيتي، وتلمست فيه حقيقة ذاتي. المنامة غنية بتاريخها وجدرانها وبيوتاتها القديمة وهويتها الحقيقية جداً. المنامة هي نستو لجيا المكان وهي بذاتها وبعيدا عن منى الصفار هي بيئة ثرية بالشعر في تفاصيلها الخاصة، لها جمالية الإنسان بكل ما تحمله الإنسانية من تناقضات وتشابه واختلاف وخلاف. المنامة المكان/ تاريخ كامل على المستوى الشخصي والتاريخي، والديني والتراثي. تشكيلة كاملة متكاملة تمنح لها سحراً خاصا لمن عشش في تفاصيلها طويلا. إن التحليق خارج المكان لا يعني أن تقطع الخيوط التي منحت لك هويتك. المنامة جزء من هويتي، وجزء من قصيدتي، المنامة هي انعكاسي على هيأة مدينة وإنني لا أستطيع أن أقنن مدينة كاملة بكل هذا في شخصي، ولكن ليكون الكلام أكثر دقة فأنا جزء من كيان هذه المدينة. * هذا الباب الذي زين غلاف الديوان، بدى لي انه مفتاح المكان والحكاية كلها؛ كم باب غسلته الشمس بالعرق الكالح لكنها لم تفتح؟! إن لكل الأشياء منافذ تمر من خلالها، والأبواب منافذنا. الباب على غلاف الكتاب هو مدخل النص، مدخل الروح والعبور. الأشياء التي تغسلها الشمس، تلونها بلونها الخاص، وتغير ملامحها، وتشكل ملمسها، الشمس، الكائن الأكثر وحشية في منطقتنا، الشمس التي تمثل العلامة الفارقة في البقاء والتغيير والزوال أيضاً. الشمس الحادة التي تمرر أشعتها ونورها لتغير الأشياء. الشمس لا تفتح أبواباً بل قد تغلق أبوابا مفتوحة. إلا ان الباب يبقى هو أول عتبة للطريق، للحي وللعالم. * كم من الاشياء ماتت او سقطت كما تسقط اوراق الخريف؛ هل تبكي الشاعرة خساراتها ونحن جيل الخسارات الكبرى التي لا تنتهي؟ أبكي شعراً ونصاً وشعوراً، لا يوجد من لا يبكي هزائمه ويتعكز على صبره. نحن جيل الخسارات الكبرى ولكل جيل خساراته الكبرى التي قد لا نعيها لأننا لم نعبر عبابها ولم نطحن تحت وطأتها. لكل إنسان خساراته التي لا يستطيع تجاوزها، بل كما ذكرت سالفاً يتعلم أن يسير للأمام محملا بها. إلا أن خساراتنا هي جزء من تشكيل كياننا، وعندما نرمم أرواحنا بالشعر والكتابة واللون فإننا نبذل قصارى جهدنا لزرع هذه الهزائم في تربة التجربة وقد تنبت يوما جلنار. * نخاف التجربة، نخاف الكسر، نخاف ان تكبر المسافة، تكبر الوحدة، ثم الهاوية الكبرى؛ أليست كلها تجارب نافعة بطريقة ما؟!! نعم، هي تجارب تعيد صياغتنا، وتعيد تشكيل رؤيتنا للأشياء، ورغم أنه لا يوجد جانب مضيء لكل عتمة إلا أننا قد نتوقف عن البحث عن النور، ونتعلم التعكز على الظلمة، ,أن نسير على هدى رغم عتمتنا. إن القضية هي في ألا نبحث عما لا يمكن إيجاده بل أن نطوّع ما غلبنا لأن نستمر رغم الغلبة. تعلمك الحياة وبالطريقة الصعبة أن تتوقف عن البحث عن حبل النجاة، وأن تترك ذاتك لتطفو حيثما تأخذها الحياة. وهذا جزء من تعاطي الإنسان مع الكسر والمسافات والوحدة. ولربما عندما نتغلب على مفهومنا الصلب لمعنى الهاوية قد نجد في الهاوية ما لم نجد على القمة بكل ما آتاها الشعراء من تبجيل. * تستحيل السيارة الى رفيق درب آمنة في الأوقات الصعبة؛ كيف لنا ان نعبر عن امتناننا لصديق لا يتحدث ولا يشعر؟! إن اعظم امتنان نقدمه للرفيق هو أن يأمن لصحبتنا ووجودنا، الرفيق القادر على فتح أبواب الاستماع لكل هذياناتنا ومشاعرنا، الذي يتمكن من حمل الثقل الذي ننوء تحته بوجودنا معه وإلى جواره. السيارة هي وسيلة العبور على الطريق المفتوح على النهايات أو دونها. إمتنان المحبة وإمتنان الحضور هو أجمل ما نمنح لكل الرفاق أيا كانو وإن كانت سيارة. * جميعنا تأخذنا الرغبة ان نريد دفعة واحدة كل امنياتنا، لكن فجأة ندرك ان الوقت قد فات مثل قطار لا يعود، نولد وحدنا ونكبر وحدنا، ثم إلى العدم .. وحدنا ؛ مثل رواية تكتبنا برغبتها ودائما ما تنتصر، ونهزم وتكرر نفسها؛ الصفار كيف لها ان تغير النهايات؟! لا أسعى لتغيير النهايات التي أعي عدم قدرتي على تغييرها، أنا أنسانة / شاعرة جبانة تترك نفسها أسيرة الموج يأخذها كيفما اتفق، ويلقي بها حيثما أراد. لا يملك كل إنسان ترف الحصول على نهايته التي يود. إن كلما يمكن أن أفعله هو أن أكون. وأحيانا أن أتوحد مع غيابي عن ذاتي وعن حكايتي كما لو كنت متفرجاً من بعيد يقرأ مع كل من حولي النهاية التي كتبها القدر في فعله دون رد فعل مني يسعى للتغيير.