مطلب النفيسة..

ضمير التشريع الوطني.

في هدوء الكبار، وبصمت الرواد المتميزين، رحل معالي الدكتور مطلب بن عبد الله النفيسة تاركًا إرثًا قانونيًا يشهد له التاريخ، وحضورًا لا يحتاج إلى أضواء ليؤكد عمقه وتأثيره. أكثر من نصف قرن قضاها في مواقع صناعة القرار، لم يكن كوكبًا إعلاميًا، لكنه كان نجمًا يستضاء به في مجاله، متفردًا في رؤيته، مخلصًا لدوره، ومؤمنًا بأن البناء الحقيقي للدولة لا يكون بالصخب، بل بالعمل المُتْقَن الذي يصمد أمام الزمن. وصفه معالي الدكتور عصام بن سعيد في تأبينه المؤثر بأنه “كالبحر الذي يموج بكنوزه في الأعماق، وسطحه هادئ لا تكاد تسمع له صوتا” وأشار إلى أن أسلوبه في الصياغة كان “السهل الممتنع” وأنه كان “يضع عدة حلول يصعب المفاضلة بينها لجودتها ودقتها”. كما رآه معالي الدكتور علي النملة “صمام أمان أمام أي اجتهاد قد يجنح عن جادة النظام” وأكد أن “حضور مطلب النفيسة كان باعثًا للطمأنينة، ومشاركته قيمة مضافة في كل مجلس”. أما معالي الدكتور عبد الرحمن السعيد فقد قال: “إنه أسهم في جلب أفضل ما في القوانين الدولية، وأعطاها وجهًا عربيًا وصبغة سعودية، بما يتماشى مع قيمنا الإسلامية العالية، ومبادئنا الوطنية الراسخة” مؤكدًا “أن ذلك جَنَّب البلاد أزمات قانونية كثيرة”​. لم يكن الدكتور مطلب النفيسة مجرد مستشار قانوني، بل كان صاحب مدرسة متفردة في الفكر القانوني، حيث لم يكن يعتبر النظام نصوصًا جامدة، بل يراه بوابة الدولة إلى العالم الحديث دون فقدان الهُوِيَّة، وهو ما دفع معالي الأستاذ محمد العميل إلى وصفه بـ “الأب الروحي لأول جيل من القانونيين السعوديين” مستذكرًا خصاله الرفيعة بقوله: “وإن كانت الآية الكريمة (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) تعني النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فإنني أستشعر معانيها الرفيعة في خصال معاليه الحميدة” .أما سعادة المستشار محمد المحيسن، فقد اختصر إرث الفقيد بالقول: “رجل دولة ومدرسة في الفكر والمعرفة، ناكر لذاته، يعمل بروح الفريق، مبتسم دائمًا، يصغي جيدًا. في مجلة اليمامة الصادرة في العاشر من شهر أبريل لعام 2025م كتب الدكتور عبد الرحمن الشملان: “إن بقاء الدكتور مطلب النفيسة طويلًا في منصبه لم يكن إلَّا تعبيرًا عن ثقة الدولة، واستمرار الحاجة لحكمته ودقته”، ونقل عنه قوله في أحد اللقاءات: “التطوير يجب أن يكون مستمرًا، وإلا فإننا سنبقى في مكاننا وسيتجاوزنا الآخرون”. وبعيدًا عن المكاتب الرسمية، كان الراحل يحمل ورقة أسماها: “قائمة المنسيين” يدون فيها أسماء أشخاص قد لا يَطْرُق بابهم أحد، ليتصل بهم في الأعياد والمناسبات الاجتماعية، في لفتة وفاء نادرة أشار إليها “الدكتور الشملان” وقال: “إنها عادة فاضلة ينبغي أن يُحتذى بها”. لم يكن الدكتور مطلب النفيسة - والكلام للكاتب – قانونيًا فحسب، بل كان مثقفًا عضويًا – وفق تصنيف أنطونيو غرامشي - يحمل بين جوانحه حِسًّا اجتماعيًا متجذرًا في أعماق روحه، حيث كان راسخ القناعة بدور الجمعيات التعاونية كأداة اقتصادية واجتماعية تعزز استقرار الطبقة الوسطى وما دونها، ويرى أنها ليست مجرد خدمات فحسب، بل أدوات سيادية تخلق التوازن داخل المجتمع. يُذْكَر في أضابير التاريخ الدستوري، أن جيمس ماديسون، الذي يُلقب بـأبِ الدستور الأمريكي، كان قليل الكلام، موسوعي المعرفة، عميق الأثر. وهي صفات تقارب إلى حد بعيد شخصية الدكتور مطلب النفيسة، الذي أسهم في صياغة أكثر من ألف نص تشريعي، مودعًا بصمته في كل سطر من نصوص الأنظمة السعودية. يُرَدِّد الدكتور مطلب النفيسة دائمًا: “كل شيء يأتي في وقته” وبالفعل، جاء رحيله في وقته، بعد أن أدى الأمانة، وترك للدولة إطارًا قانونيًا يمكن الركون إليه بثقة تامة. حيث توفي – رحمه الله – في السابع والعشرين من شهر مارس لعام 2025م، عن عمر ناهز (88) عامًا، نعاه الديوان الملكي، وصُلِّي عليه في جامع الملك خالد، ودُفن في مقبرة عِرْقة بمدينة الرياض. شيعه الوطن في جنازة مهيبة، كانت انعكاسًا لمسيرته، صمتٌ ووقارٌ، وأثرٌ لا يُمحى. برحيل معالي الدكتور مطلب النفيسة، تُطوى صفحة من صفحات رجال حملوا فكرة النظام في صمت، ومارسوا الصياغة لا كحرفة قانونية فحسب، بل كمنهج حضاري يتأسس على الإتقان، والنزاهة، وخدمة المصلحة العامة. ودَّعَنا الدكتور مطلب بن عبد الله النفيسة – رحمه الله - لكن ذكراه فاضت بنورٍ لا ينطفئ. حقًا لقد كان ضمير التشريع الوطني.