ذاتَ ليلةٍ من ليالي الشعرِ المدهش:

صَفَّقَ له الجمهورُ طويلًا، وأفسَدَ على “حجازي” أمسيتَهُ الموعودة.

 1 شاعرنا الكبير، الرمز الحداثي الفذ، محمد العلي، صاحب “لا ماء في الماء”. التقيته أول مرة في 1986، في أمسية شعرية في مدينة “ الباحة “ (كنتُ حينذاك طالبًا في الجامعة).. كنتُ في معيّةِ شاعرنا الجميل علي الدميني، فيما اعتذرَ “سيّدُ البِيد” محمد الثبيتي في آخر لحظة؛ لظرفٍ طارئ، وهنا طلب المنظمون من أستاذنا العلي الذي كان حاضرًا أن يحلَّ بديلًا عنه. بعد أن أكملنا قراءتنا (الدميني وأنا)، توجه العلي مباشرةً إلى المنصة، وطلب من سعيد السريحي “مدير الأمسية” الكلمة، وإذْ به يقول [بعد قصيدة عبدالمحسن “السفينة الحجر” لن أقرأ شيئًا من قصائدي]، ثم قال بحقِّي كلامًا فاتنًا مقتصدًا أخجلني، وكلنا يعلمُ أنه لا يغدقُ المدائحَ على أحد وأنه لا يميلُ إلى الإطراءِ إلا فيما ندر، ثم عادَ بهدوءٍ إلى مقعدِهِ بين الناس. كان أستاذُنا في منتهى التواضع والجمال والعذوبة. وحين سهرنا بين يديه، وتحديدًا على ضوءِ فتنتهِ الباذخةِ في “موتيلات” الباحة - المدينة العالية، الهادئة، والباردة رغم سطوةِ الصيف - حلَّقَ عاليًا وهو يدندنُ بصوتٍ فخمٍ مسكونٍ بالشجنِ، هكذا: “يا مَرِيّة .. يا مَرِيّة “. في الصباحِ الباكرِ جدًّا والباردِ أيضًا - وفيما كنتُ أطلُّ على مدينةِ “ الباحة “ الجميلةِ من عَلٍ متأمِلًا، وفيما كانت السيدةُ فيروز تملأ الأفقَ مصحوبةً برائحةِ أزهارٍ زكيّةٍ - لَمَحْتُهُ يتنزّهُ بهدوءٍ وهو يرتدي “ الوِزْرَة “، أو الفوطة بلهجتنا، فوقها “ فانيله “ بيضاء.. إذَّاك سألتُهُ متعجبًّا: أترتدي مثلنا ـ نحن أهل جزيرة فرسان ـ “الوِزْرَة “ يا أستاذَنا ؟ أجابني بمرح ، بلهجةِ أهلِنا في المنطقة الشرقية الحبيبة ، هكذا: “كلنا بحّارة ، يُبَهْ” !!..ومضى يكملُ نزهتَهُ الصباحيّةَ شاهقًا كغيمةٍ فارهة.  2 في شتاءٍ “ قاهريٍّ “ قارس، وفي أمسيةٍ شعريةٍ باهتة، صعدَ إلى منصةِ الإلقاءِ رجلٌ أنيقٌ جدًّا من “ رَبْعِنا “، كان يمثلنا ويمثل شعرنا الحديث وساحتنا الإبداعية زورًا وبهتانًا ، أكثر ما كان يديرُ إليه الأعناق في ذلك الرجل ليس شعره بل “ بدلته “ الثمينة وساعته الأنيقة الغالية التي كانت تلمعُ في ليلِ معصمهِ المترف وقلمه الذهبي الذي كان يخطفُ الأبصار.. المفارقة العجيبة تكمنُ في أنَّ هذا الرجل كان يتلو قصائدَ تتناولُ مكابداتِ البسطاءِ من الناس الأمر الذي دفعَ سيدةً كانت تجلس أمامي مباشرةً إلى القول بسخريةٍ مريرةٍ: “ يا لهذا الشاعر التافه! أين رأى هؤلاء الناس البسطاء الكادحين وهو كما يبدو جليًّا من سكّانِ الأبراجِ العاجيةِ العالية؟ “. كان المشهدُ مخجلًا، وكانت تساؤلاتُ تلك السيدة صريحةً وموجعة، الأمر الذي جعلني أتساءلُ بغيظٍ كبير: من اختارَ هذا “ التاجرَ “ كي يمثّلَ شعرنا وإبداعنا ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ وهل ساحتُنا الإبداعيةُ مقفرةٌ إلى هذا الحد ؟وهنا استعدتُ قائمةً طويلةً لشعراء مهمّين في ساحتنا كان منهم أستاذنا الكبير محمد العلي ، وتساءلتُ بحرقةٍ بالغة: لِمَ لا يُدْعى الشعراءُ الحقيقيون في بلادنا إلى هذه المهرجانات الشعرية المهمة؟ ولِمَ يتمُّ تجاهلهم فيما يُدْعى إليها الهامشيون والطارئون وذوو التجارب الهشة ؟ ، وأضفتُ قائلًا: شعراؤنا الحقيقيون، أصحاب التجارب الضاربة في الثقافة والإبداع والجمال كمحمد العلي حتمًا سيتركون انطباعًا جميلًا عميقًا عن الإبداع الأصيل والأصوات المدهشة في بلادنا. في هذا السياق أتذكر ما حدث بعد ذلك بسنوات، دُعِيَ الأستاذ العلي للمشاركة في “ربيع الشعر” في باريس، وحقًّا شارك بقصيدته العظيمةِ الشهيرةِ “لا ماء في الماء” التي تُرْجِمَتْ إلى لغة بودلير، وجاءت مشاركته هذه ضمن كوكبةٍ مرموقةٍ من الأسماء الكبيرة المبدعة الذين شاطروا الفرنسيين ربيعهم الشعري باقتدارٍ كبير ، وإذّاك قلتُ مبتهجًا: “الآن فقط أحسنَ هؤلاء اصطفاءَ مَنْ يمثّلُ إبداعنا الحقيقي “.  3 أستاذنا العلي ، قامةٌ شعريةٌ فارهةٌ ، وهو أيضًا صاحبُ تجربةٍ شعريةٍ كبيرةٍ تمكثُ في الأرضِ وتسطعُ في الآفاق ، وعلى الرغم من ذلك لم يكنْ معنيًّا بإصدار ديوانه ، بل آثرَ أن يبقى منجزُهُ الشعريُّ رهينةَ الصمتِ والظلال وعتمة الأدراج ، فهو ليس ممن يحسنون اللهاث خلف الأضواء ، وهو ليس ممن يشتغلون على تكريس أسمائهم وذواتهم ومنتجهم كما يفعلُ مديرو العلاقات العامة ؛ لذا تركَ مهمّةَ ولادةِ ديوانِهِ “لا ماء في الماء” - وهو الديوان الوحيد - إلى عددٍ من محبيه ومحبي إبداعه الذين تولوا جمع قصائده المتناثرة في الصحف والمجلات ، بعد سنواتٍ مديدةٍ من عُمْرِ هذه التجربة الشعرية الغنية التي ألقتْ بظلالها الندية والوارفة على تجارب وأصواتٍ كثيرةٍ في ساحتنا الإبداعية.  4 شاعرنا الكبير “ أبو عادل “ لم يهبطْ إلى الساحةِ الشعرية المحلية والعربية بمنطاد ، وهو لم يقفزْ إلى “ القصيدةِ الحديثةِ “ من نافذةِ الدعاية والإعلان والزيف والتزييف، بل أتى إليها من بوّابةٍ عريضةٍ اسمها الموروث الشعري العربي الواسع ، فهو من أولئك الشعراء الذين أنفقوا ضوءَ أعينهم على القراءة الجادة والمتابعة الحصيفة للتجارب الناضجة في بلادنا وفي العالم العربي والعالم ؛ ولهذا كانت نصوصُهُ دائمًا مثقلةً بالجمال الذي ليس يفنى وبالألقِ الذي ليس يذبل ، وهي من دون ريبٍ نصوصٌ تضاهي ما كتبه كبار الشعراء على مستوى الوطن العربي الذين صاروا نجومًا جرَّاء ما حصدوا من شهرةٍ وذيوع فيما هو آثَرَ أنْ يعيش في الهامش ويكتبُ في الواجهة.  5 على الرغم من مرورِ عددٍ من السنواتِ تحت جسرِ الزمن، وعلى الرغم من هذه الثقوب الكثيرة التي مَسَّتِ الذاكرة إلا إنني أتذكر هذا المشهدَ جيدًا: أستاذنا العلي حين فرغَ من إلقاءِ قصيدته الباهرة “لا ماء في الماء (كانت الأمسية في مبنى نادي الرياض الأدبي وكانت هذه الفعالية تنتمي لفعاليات مهرجان الجنادرية)، وقفَ الجمهور الغفير الذي كان محتشدًا تلك الليلة وظلَّ يصفقُ له بحماسٍ لا نظير له وبحرارةٍ لا مثيل لها. ذلك التصفيق الذي استغرقَ مدَّةً طويلةً كان ملفتًا لكل من تابعَ تلك الأمسية الباهرة.. بعد قراءة العلي قرأ الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي وإذَّاك شعرتُ أنَّ العلي بَزَّ بشعره الطازج المغاير وبإلقائه المميز الفاخر الشاعرَ حجازي - وهو من هو - وتفوق عليه، بل شعرتُ أنه أفسدَ عليه أمسيته بل ليلته كلها.  6 أستاذنا العلي شاهقٌ كنخلةٍ من نخيل “ الأحساء “، عنيدٌ كموجةٍ من بحر “ دارين “ التي حَاكَ لها أجملَ القصائد ونَسَجَ في مديحِ لِحَاظِها أعذبَ النفائس.. مدهشٌ كسربٍ من هديلٍ في مرايا الفجر، جريءٌ كغناءِ بَحَّارةٍ يكابدون طويلًا كآبةَ الملح ويعاندون بجسارةٍ غدرَ الزرقة. هو في القلبِ كالعشقِ الأول، كالفرحِ المعتّقِ والبهجةِ الحاسمة، باقٍ في الشغاف كدندنةِ الأمهاتِ ذاتَ هاجرةٍ وهجرٍ وقيظٍ وشجنٍ حثيث. قلبه وطنٌ للعصافير، ملاذٌ للفراشاتِ، قلعةٌ لطمأنينةِ الظباءِ وعشٌّ فاتنٌ لتبرّجِ الأقمار. أعماقُهُ بريّةٌ تتطامنُ فيها القطا، خِبَاءٌ للوعولِ المسكونةِ بهاجسِ المطاردة. صوتُهُ نزهةٌ سخيّةٌ لصهيلِ الجِياد وفلاةٌ مفتوحةٌ للريحِ النحاسية، ضحكتُهُ الطويلةُ ظلالُ أشجارٍ عالية، سريرتُهُ فندقٌ للقصائد. يحدبُ على البرعمِ البكر، ويرأفُ بالوردةِ الناعمة. مسكونٌ بالشجنِ العذبِ ، بالأمواجِ الصاخبةِ ، بالعواصف الأنيقةِ، بالجمرِ الشهيِّ، بالدعابةِ الحلوةِ، بالغدِ الوسيم، وبالمواويل التي تكترثُ بالحياةِ والإنسان. كلما غَنَّى في هذه المفازةِ الهرمةِ اتسعَ القلبُ وازدهرَتْ في الشفاهِ العصافير.. وكلما ارتفعتْ عقيرتُهُ بالحُدَاءِ الجميلِ، الحُدَاءِ الدليلِ أشرقتِ الآفاقُ في أعينِ السالكين واتضحت الطرقُ الملتبسة واخضرت المسرَّةُ فينا نحن المنتمين إلى قبيلةِ الحِبْر. في عينيهِ نظراتُ نِسْرٍ، وفي جبهته نجمةٌ عالية، في السُّرى كأنه البوصلة، يدلنا على جهةِ الضوءِ والحُبِّ والبياض، وكلما أبصرَ طيفَ خريفٍ قادمٍ أشعلَ شمعةً في القلبِ وبشَّرَ بربيعٍ سوف يأتي، وبسحابةٍ تكنزُ المطرَ والفرح، وبقصيدةٍ تَدْحَرُ القيظَ والرملَ واليأسَ وكهنةَ العتمة. منحازٌ للجمالِ ومثابرٌ لإقامةِ هذا الجمال في الأرضِ، في اللغةِ، في النَّصِّ، في النفوسِ، فيما الوقتُ مكرَّسٌ للبشاعةِ، والضغائنِ وإنتاجِ القبحِ والرماد. سيِّدُ خطًى مبدعة، له خطوةٌ مضيئةٌ في بستانِ التراثِ وأخرى متألقةٌ في حديقةِ الحداثة. يهجسُ بالصباحاتِ التي لا تأفل، بالعناقيد، بالأعياد، وبالساعاتِ التي تدقُّ تدقُّ فتوقظُ الغارقين في عسل النوم. يحتفي بالكلامِ المصابيح. الكلامِ المآذن. الكلامِ الأبراج. الكلامِ الوعي الكلامِ الأمل الكلامِ الحمام الكلامِ المغايرِ لما تقترحه الأقفاص.