
لو ابتعدنا قليلاً عن الرقص النسائي المتعارف عليه والذي يحضر دائماً في الإعلام كبعض الرقصات الخاصة بمنطقة الجنوب والشمال فنحن أمام عدد كبير من الرقصات النسائية التي لا يعرفها البعض، وبمعنى أدق لا يتم تداولها في الإعلام حيث أختزل الكثير أن رقص الفنانة عتاب هو الرقص الشائع وربما الوحيد لدى السعوديات ، ولكن الواقع مختلف تماما عن هذا، فلا أبالغ لو قلت أن رقص عتاب رغم جماله ولكنه قد يكون الأقل طرباً وتفننا مما هو موجود ؛ عدم تصوير الرقص النسائي وضعه في قوالب محددة ظلمت التنوع والبراعة التي تؤديها النساء ، علاوة على صورة نمطية فيها إساءه ربما غير مقصودة ولكنها ناتجة من جهل المعرفة وتحت تأثير فكرة (كل شيء ماشي) ! في السبعينات الميلادية انتشرت في بعض الدول الخليجية مشاركة راقصات عربيات مع المغنيين على المسارح ويرتدين ثوب النشل النجدي، وانتقل أسلوب (جذب الجمهور) من خلال الراقصات إلى الفيديو كليب مع المغنيين الخليجين، والآن نراها في الجلسات الغنائية!! ولو قبلنا بهذا (الجذب) كفكرة فهي جيدة جداً خاصة الآن مع الجلسات الغنائية إلا أن حماسنا ينطفئ، بل يتحول لاستياء لما نراه من فقدان لأبسط مقومات وقدرات وتنوع الرقص رغم أن معظم الرقص يتجسد فيما يسمى مجازاً بالرقص الكويتي السهل البسيط، ومع هذا لا توجد أي جهود لتحسينه وتجويده مما يؤكد رسوخ صورة الرقص الخليجي النسائي المستمد من مسرح السبعينات وكليبات التسعينات!! مثلاً لو أخذنا الرقص الشرقي كقدرات فردية، هل جميع الراقصات بنفس المستوى؟ الرقص الشرقي كفكرة في الأذهان وحركات عامة تكاد تكون واحدة، ولكن الواقع مختلف تماماً فلكل واحدة تفردها وحالتها الخاصة في الليونة وتحريك الأقدام والرقبة والشعر والدوران وغيرها، وهذا ذاته ما ينطبق في الرقص عند السعوديات، وهو لا يظهر على الشاشات في الجلسات الغنائية، بل إن بعض الجلسات الغنائية التي تعتمد على بنات في الرقص لإكمال المشهد البصري أساءت للرقص وجمالياته، وقد يكون رقص الرجال في هذه الجلسات أفضل وأقرب للواقع، وهنا إشارة لابد منها وهي أن الرقص حالة إنسانية، وليس كما يصفها البعض بأن هناك رقص خاص بالنساء وأن من أداه من الرجال فهي علامة الميوعة، فمثل هذه الاقوال فيها مبالغة وتنطع وجهل بماهية الرقص، بالإضافة للانسياق خلف أفكار حدية ليس لها دليل في الواقع، وفي الأسطر القادمة سأتحدث عن رقص النساء في بعض القرى والمحافظات وهو أشبه ما يكون لرقص الرجال من شدته وقوته . رغم تشابه الرقص النسائي في المدن الكبرى في السعودية مع بعض دول الخليج خاصة المنطقة الشرقية، إلا أن بنات الشرقية تأثرن بأنواع الرقص الشائعة في المدن الكبرى الأخرى، وأعتقد أن سبب هذا التأثر عائد للفنانات الشعبيات اللاتي كن يتنقلن من مكان لآخر، وفي كل مكان يغنين أغاني منوعة بإيقاعات مختلفة لذا حصل انتشار لرقصات متنوعة في كل المناطق، وأنا هنا لا تحدث عن التراث ولكن عن الحياة الحديثة، ومع كل هذا التداخل والتنوع إلا أن كل منطقة أو محافظة مازالت تحتفظ بتراثها الراقص في الجانب النسائي، وقد يكون هذا التداخل هو من الأسباب الدافعة للمحافظة على التراث. أعتقد أن منطقة الحجاز خاصة مكة وجدة كانتا الأكثر تنوعا وإقبالا على الفن وعلى ابتكار الرقصات، فحسب تصوري أن استعمال الصاجات في الرقص النسائي بدأ من الحجاز، فكانت تستعمل في الرقص العدني والكويتي، وليس لدي فكرة إن كان تم استخدامها في البداية من قبل الرجال الذين يرقصون في بعض المناسبات وكانوا يميلون بمظهرهم الخارجي للنساء ثم أخذتها النساء منهم!! وهؤلاء الرجال ليسوا من ذكرت سلفاً؛ ولكن من الحجاز أصبح للصاجات حضور مختلف وقوي وجمالي في يد الراقصة يزيد من طربية الأغنية والمشهد الراقص لاسيما أن الصاجات في حد ذاتها فيها من التفنن والابتكارات ما يجعل كل راقصة تختلف عن الأخرى، فالتماهي مع الأغنية والاندماج مع إيقاعها يعتمد على مشاعر الراقصة وكيفية تكييف قطع النحاس بين أصابعها مع الإيقاع، فالصوت العام للصاجات يكاد يكون على رتم واحد لاسيما إن كان ضمن الفرقة الغنائية وهذا أحد فروق الصاجات أنه حين يكون مع الفرقة فقليل أن تخرج ضاربة الصاجات عن الرتم المعتاد، ويبدو أنها ترتهن للمزاج العام للحضور من خلال ضرب الصاجات بضرباتها المعروفة، بعكس من ترقص فهي تتفنن بها حسب مهارتها وخفة أصابعها ومشاعرها وانسجامها. وكانت هناك بعض الأقاويل المنتشرة في الأوساط النسائية وتأخذ الطابع الفكاهي، فعندما تشتهر رقصة معينة في الحجاز ويشاهدها نساء الرياض في المناسبات تدور أحاديث ضاحكة عن انتظار مشاهدة هذه الرقصة في الرياض، وكأن هناك اعتراف ضمني بأن بنات الحجاز يبتكرن الحركات والتكنيك في الرقص أكثر من المدن الأخرى. رقص النساء في المحافظات والقرى لاسيما قبل عقدين أو ثلاثة يختلف عن الرقص الذي قد نراه في المدن الكبرى، وسأتحدث عن بعض الألوان الغنائية التي قد لا يكون تم التطرق لها إعلامياً في الجانب النسائي؛ اللون الدوسري الشائع، هنا نجد أن المرأة في بيشة ووادي الدواسر، على سبيل المثال، ترقص بشكل قوي، ترى القوة والنشاط في جسدها بشكل ملفت فلديها القدرة والتجاوب مع ضرب الطيران القوية السريعة، وهذه كانت احدى مميزات الفرق الغنائية قديماً سواء في المدن أو القرى وهي القوة والاحترافية في ضرب الطبول، وفي العادة يكون الرقص بين اثنتين متقابلات، وهنا تشاهد الفروق الفردية في الرقص، ولكن الجميع يجمعهم الاتقان والانسجام مع الدفوف؛ كيف لهن من الليونة ما يجعل كل واحدة تميل بجسدها رقصاً يميناً ويساراً وهي مازالت تقف في نفس المكان، وفي نفس اللحظة تحصل عملية تبادل مع من ترقص قبالتها، حيث تأتي كل واحدة مكان الأخرى، وهذه الحركة السريعة تشي بحركة الجسد وصعوبة وقوفه في مكان واحد تحت نشوة الطبول، تبادل أماكن بين الاثنتين برشاقة فاتنة، وقد ترقص بعضهن على رجل واحدة، مع يدين تتراقصان في الهواء بتوافق دقيق مع الحالة الطربية وحركة الجسد، وبالتالي هذا الرقص الحار البارع الذي يوحي وكأن الراقصة تتخلص من متاعب الحياة، يبعث الحماس لدى ضاربات الطبول فتزيد قوتهن وحماسهن، وهذا الحماس والقوة يرتد مرة أخرى على الراقصات، فتكون عملية تبادلية فنية مدهشة ومبهجة، الغريب أن هذا الرقص القوي الذي يضرب بشدة على الأرض لا تستطيع أن تقوم به الفتيات خاصة بنات المدن إلا من تربت منذ صغرها على هذا النوع من اللعب. ومن أعراف الرقص التقاء اثنتين أمام بعض، فمن باب الاحترام والتقدير عندما ترقص سيدة كبيرة في العمر فلابد أن يرقص معها كل من تربطها معها علاقة قرابة أو صداقة وثيقة، ويكتمل هذا الاحترام عند البعض بالمسح على الرأس بمبالغ مالية، وهو مختلف عن ما يسمى التشويط ، فهذه المبالغ من باب التقدير والاحترام والمحبة والمودة وأحياناً رد فعل كأن تكون الراقصة سبق وقامت بالمسح بالمال، هذا الفعل شبيه برد الهدايا الآن، وفي مناسبات الفرح مثل الزواجات وقت زفة العروس ودخول رجال من أقاربها سترى الرجال والنساء يتشاركون الرقص على نفس الإيقاعات ويؤدون نفس الحركات وستشهد الاختلافات الفردية التي ذُكرت سلفاً، وهذا ما قصدته في الأعلى بأن هناك رجال يرقصون مثل رقص النساء، ورغم أنها اختفت في المدن إلى حدٍ ما ولكنها مازالت موجودة في كثير من القرى والمحافظات، فهي أحد تقاليد الزواجات الأصلية . نفس هذه الخفة تجدها عند البدويات في رقصهن، فالبدوية في ميدان الرقص تصبح خيلاً جامحاً لا تتعاطى إلا مع قوة الطار وكأنها في ملكوت خاص بها يتحرر جسدها وروحها من كل الأثقال والأوجاع، ولا تستغرب حين ترى التصفيق يشارك الدفوف الحماس ويزيده، فالتصفيق نغمة قائمة بذاتها وترتبط بعلاقة متينة مع الحالة الطربية منذ القدم، فهي تضرب على الأرض بقوة مع كل حركة وتتحرك بسرعة مهما كان اتساع ميدان الرقص، وقد يكون عدد من الراقصات في ميدان الرقص ويرقصن على نفس الإيقاع إلا أن لكل واحدة منهن طريقتها الخاصة في الرقص وتحريك قدميها ويديها وشعرها، وهنا لا يشترط تقابل اثنتين كما الوضع في الدوسري أو الكويتي، وطبيعي أن ترى بدوية الآن في مناسبة فرح ترتدي البرقع من دون عباءة وترقص بكل طبيعتها وقدرتها الجسدية مما ينتج عنه مشهد جمالي بديع . الأمثلة التي ضربتها في الأعلى تعتبر قليلة جداً في عالم الرقص النسائي السعودي، وكثير يطلقون على الأنواع المذكورة لعب وليس رقص، فالبعض يعتقد أن كلمة لعب محصورة للرجال، وهذا غير دقيق، وربما أن الرقص بشدة وقوة هو ما يقال عنه لعب حتى في الوسط النسائي. سمعت لقاء مع الفنان الكويتي سليمان القصار يتحدث فيه عن الفرق بين لعب البدوية والحضرية وأشار إلى أثر المكان الفسيح أو الضيق في اللعب، فالبدوية تعيش في الصحراء المكان المفتوح لذا كان لعبها الحركة السريعة في مكان واسع، بعكس الحضرية التي تعيش في مكان محدد فيكون لعبها في نفس المكان وحركتها صغيرة. وأهم ما سمعت منه كيف أن كثيراً من اللعب في الألوان الغنائية الخليجية مستمد من الطبيعة وبعض حركات الطيور والحيوانات، ولا أعرف أن كان هذا الأمر ينطبق على كل الفنون والألوان؟ من شدة الاهتمام بالرقص عدد قليل من الفنانات الشعبيات ربما واحدة أو اثنتين حسب علمي وأعتقد أن التي سنت هذه السنة هي الفنانة ماري سعيد حيث خصصت اثنتين للرقص فقط، وكانتا تتدربان على الرقصات المشهورة حينها مثل الأغنية العراقية الشهيرة “هي وهاي وهو” التي كانت تتطلب نوعاً معيناً من الرقص الذي يستدعي انحناءة مستقيمة على الساقان والوقوف بسرعة ثم متابعة الرقص، وكانت هذه الفقرة من الفقرات التي كسبت إعجاب المجتمع النسائي، رغم أن فقرة الرقص هذه لا يشارك فيها أحد، وحقيقة كانت رغبة وحماس المشاهدة ومتابعة جديد الرقصة وإتقانها أهم لدى الحضور من المشاركة فيها، فهناك من يركز مع استمتاعه لتتدرب على الرقصة في منزلها ومن شدة الإقبال على هذه الفقرة قد تعاد الأغنية والرقصة أكثر من مرة، والجميل في هذه الرقصات التي تقدم من الفرقة لا تخرج عن الطرب الذي نعرفه ونألفه، أي أنه ليس غريباً على مسامعنا فقد يتغنى على لون عدني أو كويتي أو خبيتي وهذا يعتمد على شطارة ومهارة الفنانة، وأذكر أنه انتشرت رقصة لبريك دانس وتم تأديتها على أغنية محلية، بمعنى أنه تم إعادة تلحين أغاني خليجية/ عراقية/ يمنية لتتناسب مع رقصة بريك دانس، للأسف أني لا أذكر الأغاني، ولكن أذكر حالة الإعجاب بقدرة تطويع رقصة غربية على أغاني خليجية، وفي هذه الرقصة لم تكن غربية كما هي بل تم دمجها مع حركات راقصة من الرقص المعروف، أي تم مزج الرقصة بين غربي ومحلي، فقد ترقص الفتاتان “كويتي” بالخطوات والجسد ولكن حركة اليدين من بريك دانس . للأسف أني لم أر حتى اليوم لوحات تشكيلية تجسد هذا الرقص المتنوع والباهر، فهناك صور محدودة في الأذهان للرقص النسائي السعودي، يبدو أنها اعتمدت على الأكثر تداولاً في الإعلام، بينما الذي لم يظهر على الشاشات مليء بصور باذخة ومذهلة.