
اللغة الأدبية تمثل صدمة شعورية نفسية عقلية منذ تناولتها اللسانيات البدائية، وهي إما موجهة أو متخيلة بتجسيد، فمنذ ظهور المجتمعات التفسيرية التي أقرها المفكر ستانلي فيش عام 1980 في المناقشات حول التفسير الأدبي، بدأت تساؤلات حول: من أين يأتي المعنى أو ما الذي يقرر هذا المعنى؟ نشأ المفهوم النظري الذي أطلقه فيش ويرى فيه أن المجتمعات التفسيرية تتكون من أولئك الذين يتشاركون استراتيجيات تفسيرية ليس للقراءة بالمعنى التقليدي بل لكتابة النصوص وتكوين خصائصها وتحديد نواياها. وبعبارة أخرى يرى فيش أن المعنى في النص ينبع من تصور القارئ ومجتمعاته التفسيرية المختلفة والأفكار المسبقة التي يحملها. إن استراتيجيات التفسير كما يزعم فيش هي شكل من أشكال القراءة، ولأنها كذلك فإنها تعطي النصوص شكلها وتصنعها بدلاً من أن تنشأ عنها كما يُفترض عادةً. وفي هذا الطرح يدحض فيش الادعاء القائل بأن المرء يقرأ نصًا قبل تفسيره، إذ يرى أن فعل القراءة وفعل التفسير هما نفس الشيء، فهو يبتكر مفهوم “المجتمعات التفسيرية” ليظهر من أين تستمد مفاهيمنا المسبقة عن المعنى، مؤكدا أنها مجتمعات يمكن مشاركتها وتعميمها. لقد كُتب جزء كبير من التراث الثقافي المكتوب في العالم في العصور القديمة من قبل ثقافات مضت وبلغات مغمورة سواء في تشكلها الصوتي أو في المعنى الموجه الذي جاء من الفعل النفسي والعقلي بالصدمة الشعورية. وتشكل النصوص القديمة تحديًا للقراء المعاصرين، إذ أن قدرتنا على قراءتها والاستمتاع بها والخضوع لتجربة ذات مغزى تظل محدودة بسبب الصعوبات في فهم النص، والمسافة الثقافية والنفسية والزمنية والجغرافية واللغوية، ما يجعلنا في وضع غير مواتٍ فيما يتعلق بقراءة الماضي. ومع ذلك يمكننا مساعدة القراء على سد هذه الفجوة من خلال المعلومات الموازية للنص، مثل تفسيرات الكلمات الصعبة، والخلفية التاريخية الواردة في الحواشي، والمقدمات العلمية والقراءات الموجهة. وعلى الرغم من مزايا هذه الأساليب إلا أن قدرتها على تقريب القارئ من النص تظل محدودة، لأنها تقوض أيضًا تجربة القراءة البديهية وغير المباشرة. إن الصدمات النفسية وتمثيلها في اللغة ودور الذاكرة في تشكيل الهويات الفردية والثقافية هي من الاهتمامات المركزية التي تحدد مجال دراسات الصدمة وتشكل نظريات التحليل النفسي واللغوي والأدبي بشكل خاص. إلى جانب الأطر النظرية الأخرى مثل النظرية ما بعد البنيوية، والنظرية الاجتماعية الثقافية، ونظرية ما بعد الاستعمار، تشكل هذه الأسس الإطار النقدي الذي يفسر تمثيلات التجارب المتطرفة وتأثيرها على الهوية والذاكرة. إن مفهوم “الصدمة النفسية اللغوية” يُفهَم عمومًا على أنه تجربة مدمرة للغاية تؤثر بعمق على التنظيم العاطفي للذات وإدراكها للعالم الخارجي، وتستكشف دراسات الصدمات النفسية من خلال مجتمعات تفسيرية متخصصة، تأثير الصدمة النفسية في الأدب والمجتمع من خلال تحليل أبعادها النفسية والبلاغية والثقافية، وكذلك العوامل النفسية والاجتماعية المعقدة التي تؤثر على فهم الذات لتجربتها الصادمة وكيف تتشكل اللغة بهذه التجربة وتشكلها. وبالتالي تظل الابتكارات الرسمية للنصوص سواء المطبوعة أو الإعلامية التي تعرض رؤى حول الطرق التي تتأثر بها الهوية واللاوعي والتذكر بالأحداث المتطرفة، محورًا مهمًا لهذا المجال. لقد طرحت طريقة أخرى لتصور القراءات المعاصرة للنصوص القديمة وتحليل صدمة اللغة فيها، وهي أن نفكر في المجموعتين من القراء المعاصرين والقدماء باعتبارهم أعضاء في مجتمعين تفسيريين مختلفين من المجتمعات التفسيرية، حيث زعم أن المجموعة التفسيرية الاجتماعية التي ينتمي إليها القراء تحدد سلفاً استراتيجياتهم التفسيرية ومفاهيمهم الجمالية، وقد يضفي هذا النهج الشرعية على الطريقة التي يبني بها القراء المعاصرون النصوص القديمة واصولها النفسية العقلية على نحو حديث باستخدام التناقضات التاريخية والمنظورات التي لا تناسب بالضرورة الطرق التي كانت تقرأ بها النصوص عندما كتبت في الأصل. في الأدب اللغوي المتبلور من التقاء الفلسفة بالأدبيات الطبية، تفسر الصدمة المتكررة في ضوء المجتمع التفسيري المتخصص على أنها وسواس قهري وقد أقر بذلك فرويد في وقت مبكر من نظريته (ما وراء مبدأ اللذة) حيث يرى أن الصراعات الناجمة عن الصدمة تخلق عصابًا صادمًا نتيجة خرق واسع النطاق يحدث في الدرع الواقي ضد المحفزات. فالعقل، باعتباره كائنا حيا يحتوي على طبقات خارجية وداخلية حيث تتمتع الطبقة الخارجية بـدرع واقي ضد المحفزات الخارجية الضارة، ولكن عندما يحدث الخوف، أي عندما يواجه الإنسان خطرًا دون أن يكون مستعدًا له، فإن غياب القلق إلى جانب المحفزات الخارجية يسبب العصاب. إذ يعمل القلق كآلية حماية ضد الصدمة، أما الخوف غير المتوقع فلا يحمل أي دفاع، فتخترق المحفزات الخارجية الحاجز وتدخل الى النفس الداخلية بلا حماية كافية. يقول فرويد “نحن نفسر أي إثارة من الخارج بأنها (صادمة) إذا كانت قوية بما يكفي لاختراق الدرع الواقي، وتحدث خرقا في الحاجز الفعال ضد المحفزات”، وهذا يظهر أن الصدمة تنشأ من التقاء عامل خارجي بنظام داخلي غير مستعد. وتتكرر أحلام المريض المصاب بالصدمة كتجربة يحاول من خلالها أن يطور القلق الذي كان إغفاله سببًا في العصاب الصادم، ونظرًا لأنه لا يستطيع أن يتذكر كل ما هو مكبوت بداخله، فإنه يضطر إلى تكرار المادة المكبوتة كحدث معاصر بدلاً من تذكره كشيء ينتمي إلى الماضي. ويصبح سرد الحدث أمر بالغ الأهمية للتعافي، فالمريض لا يسترجع الحدث الفعلي، بل يعيد إنتاج التجربة الصادمة في أحلامه، وعلى الرغم من الشكوك حول ما إذا كانت التجارب تترك آثاراً أو سجلات دائمة في العقل، إلا إن المريض يكتسب فهماً أعظم للماضي من خلال التفريغ والعلاج بالكلام، اذ إن الذكرى المؤلمة عندما تكون غير مروية، لا تندمج في النفس ويبقى أثرها معلقا. إن التركيز على التذكر السردي من أجل التكامل الطبيعي للذاكرة، والفكرة العامة للذاكرة كمخزن للخبرة هي من الركائز الأساسية للتصور النقدي الأدبي للصدمة. ومع تصورات المجتمعات التفسيرية المتخصصة، الطبية والنقدية، للمادة الأدبية اللغوية النصية، فإنها تدحض في نهاية المطاف فكرة الثبات في فهم النص الأدبي. ومع تعمق الدراسات في النص والمعنى فإنه يبدو ان اللغة بدأت اصلا من صدمة شعورية ترتبط الذاكرة التاريخية، سواء تعلقت بصدمة ثقافية او جماعية او شخصية، فالتاريخ مثل الصدمة ليس ملكاً للفرد، بل هو انعكاس لطريقتنا في التورط بصدمات الآخرين، والصدمة تستثير استجابة مشتركة عبر الزمن. الأدب، من هذا المنظور، يجسد تكرارا مرضيا لأفكار مخزونة تأخذ أشكالا وأبعادا متضخمة للمعنى، لكنها تبقى في حالة سجن داخل الحدث الأصلي المؤلم، الى أن تتحرر في صورة الصدمة. إن جودة الصدمة الممتدة عبر التاريخ أو بين الأجيال تقترن بإمكاناتها المعدية وقدرتها على الخلود. فهي تجارب متطرفة ترفض ان تستوعب في الذاكرة السردية، من هذا المنظور تعني الإمكانات التاريخية للصدمة أن التجربة الصادمة لمجموعة ثقافية في الماضي التاريخي يمكن أن تصبح جزءًا من المشهد النفسي للفرد المعاصر الذي ينتمي إلى نفس هذه المجموعة سواء كان ذلك بوعي منه أو من خلال “ الكمون” الكامن في بنية الصدمة. هذا الكمون يخلق فجوة زمنية، يصبح فيها معنى التجربة وقيمتها غير محددين، وهو ما يعد انقطاعا في تجريه العقل، ويسبب المعاناة النفسية ويكرس غموض المعنى. وتدور التجربة في هذا السياق لتعيد خلق حدث مماثل في الوجدان الفردي، يمتد من التجربة التاريخية الى الواقع المعاصر مولدا نوعا من الغياب الذي يشير في جوهره الى الحدث الأصلي دون أن يمنح إدراكا معرفيا أو أخلاقيا واضحا له. وتظل فكرة “عدم إمكانية تمثيل الصدمة” مفهومًا أساسيًا في الدراسات التي تتناول الانتقال من التاريخي الى المعاصر، لما تتركه من تأثيرات انفصالية جوهرية على الوعي والذاكرة وعلى الأبعاد الثقافية للصدمة، وتنوع تعبيراتها السردية واللغوية. فهي في جوهرها حدث يغير الادراك والهوية ضمن النموذج التعددي لنفس المجموعة الثقافية.