أزمنة محمد العلي.

الخروج من الزمن عبر الكتابة ليس مجرد فكرةٍ تستحوذ على عقل كاتبها إنما كينونةٌ خاصة تنحتُ التجربة و تؤطّر المستحيل في قالب لغوي مهما كان شغفه بالواقع إلا أنه أسيرا لأزمنةٍ خاصة و هو ما يعيشه الأستاذ الكبير محمد العلي بصفته شاعرا و أديبا و مفكرا . التقيته قبل شهور مثقلا بأعباء الحضارة لكنه مهجوس بالقيم التي مازال يتمرن عليها في حضرة مُريديه و كأنه غزالٌ نافر يستحضرك أكثر مما تستحضره بذاكرة مُتاخمة لقراءاته الأولى و مُقبلا بمحبةٍ كبرى ليسمع منك أكثر مما يتحدث عن نفسه و تلك سِمةٌ مؤجلة تُضيف لمحمد العلي مهابة الكبار الذين يتشبثون بقطار الأزمنة كي لا يفوتهم التقاط لحظة العبور . يمكن أن تُراهن -بلا شك- على الشاعر عندما يتداعى إذا لم تُراهن عليه و هو يجترح ذاته لإنتاج فكرة فلسفية غير أن الحالة المتفردة التي كانت تطغى بعُمق محمد العلي جعلته يمنح الكتابة أمزجته الخاصة و الخالصة لاسيما أنه يُعقلن كل شيء مهما كان متخيلا و يُخيِّلُ كل شيء مهما كان شاعريا و هذه لغة أبعد من كونها ملتبسة بل هي كينونة يبلورها الكاتب مثل شفافية بَصَّار عتيد . و نتساءل ؛ هل ينتمي الشاعر لأرضه أم لفكرته؟ محمد العلي الذي عولَم الأحساء في كتاباته و كان حالما بالعراق الذي مضى دهرا فيه ثم جاور بحر بيروت و اتكأ على زرقة الدمام كأنه عائدٌ في مستهل الغيم ليهطلنا بقصائده التي بللت وجداننا زمنا طويلا منذ ريعان شبابه حتى تصرمت أعماره و هو مازال يُجدِّفُ نحو الغروب . … فهو يُحدثك عن الأحساء أو يسترسل بذكرياته في العراق مع رموزها الكبار كالجواهري ومصطفى جمال الدين تجده بنفس الهوى عندما يتحدث عن الرياض وحداثتها مع الغذامي والبازعي والحميدين وأحمد الصالح (مسافر) كذلك إذا طرأ على باله محمد الثبيتي وهو ينفرط شغفا من مزون الطائف تماما لا يغيب شعوره إذا ذكر محمد حسن عواد وحمزة شحاته و غيرهم من أدباء الحجاز إضافة إلى نقطة البداية إذا قال ما لا يقوله إلا عاشق عن غازي القصيبي وجاسم الصحيح وعدنان العوامي من مدخرات الساحل الشرقي و لا يُمكن أن ننسى علاقته بأدونيس وهو الهاوي والمتهاوي على شرفة بيروت ناهيك عن انهماكه بالشأن العربي كصحفيّ بارع ومثقف يتصفح جرائد الحياة مع قهوته الصباحية المترنمة بأصداء فيروز . محمد العلي رغم حساسيته المفرطة إلا أن شعوره مثل خارطة تتشكل بوعي الإنسان وحريته دون حدود تفرضها الجغرافيا لذلك بقي أسير أفكاره و عاش أزمنته كما يحلو له إلى أن وقع في فخ العزلة/العزلة المبكرة التي صنعت منه شاعرا كبيرا حيث يقول في قصيدة (الوجع) : «‎الوجع لهب لا يضيء ‎ثلة من مسامير أو هرم من دموع ‎قافلة من رعود بلا مطر سيجيء ‎ومجزرة دائمة ‎الوجع!!ما تشاهق في القلب مثل النوارس ‎ثم أفاق على هوة غادره ‎الوجع أن تحدق فيك صباحا فتلعن كل المرايا ‎الوجع لا يساويه إلا الوجع…» كيف تُراهن على شاعر بلا وجع؟ إنه وجع الذات المأخوذة بفوبيا الأزمنة و الغارقة في متاهة الكلمات حيث «لا ماء في الماء» و لا لغة في اللغة إذ يقول : «‎ما الذي سوف يبقى ‎إذا رحت أنزع عنك الأساطير ‎أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل؟ ‎ماذا سأصنع بالأرق العذب ‎ماذا سأصنع بالأرق العذب ‎بالجارحات الأنيقات ‎أما لقيتك دون الضباب الجميل ‎كما أنت.. كن لي كما أنت ‎معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة ‎مختلطاً بالثمار ‎ومكتئباً كالعيون الوحيدة ‎بيني وبينك هذا الضباب ‎الذي يمنح الحلم أشواقه ‎يمنح الوهم أجنحة الماء» أمام هذا النص البارد تُلامس سخونة الكلمات في فم الشاعر كما لو أنه فوهة بركان، فالشاعر يتدفق بحُرقة في كل حالاته المتسربة بأحشاء اللغة، لكن… الأسئلة بمقدار ما تُفلسف النص تُثقله أيضاً مع ذلك أصبحت هذه الأسئلة ملمحا مهما في تجربة العلي تتماهى مع الأزمنة التي تقوده نحو الاجتراح ليبقى مُتوجعا لا مُتفجعا . محمد العلي قارئ موسوعي و يشكل ذاكرة لغوية متجذرة في بطون الكتب القديمة مرورا بوعيه الحاذق على بدايات الحداثة العربية التي واكبها و كان جزءا منها حيث أسس مع رفاقه بالعراق منتدى أسرة الأدب اليقظ الذي كان علامة فارقة في المُكوّن الشعري المعاصر آنذاك، و لذلك عندما تقف أمام استفهاماته الكثيرة ترى إجاباتك مُشرعة حيث يُجبرك أن تكون شريكا معه في النص لذلك هو ابن الأزمنة البعيدة . الزمن ما تعيشه لا ما تتعايش معه/الزمن يبقى داخلك حتى لو خرج منك يعود موارباً/الزمن يقول عنك أكثر مما تقول عنه/الزمن سيد اللغة/الزمن عرّاب الكلمات/الزمن قميص يوسف الذي يُبرئُ علل الفقد/الزمن هو محمد العلي الذي يتخفى بأستاره و يتجلى بأقماره… لذلك استمر شاعرنا جيلا بعد جيل رهانا صعبا في حداثتنا المفجوعة من صدمة التاريخ و المتوائمة مع أزمنة الغد ؛ إنه محمد العلي !