«أتراني؟!»

في أواخر سبتمبر -ربـمــا- أو بدايات أكتوبر؛ انتزَعَ الطريقُ ابتسامتـي الأولى، بعد قضـاء عدة أسابيع وبيننا معدةٌ منقبضة، ووجهٌ ينافسها انقباضا... (الدوام) وماذا يصنع الدوام في قلبٍ حقيقيّ؟! الله وحده أعلم... في تلك اللحظــة التي انشقَّتْ فيها ابتسامتي عني؛ رأيتُ الغيوم على كأنها تودُّ الركض معي على الطريق، بل تكاد أن تمسَّ أحلامي بالهروب، رؤاي التي تسبقني بعيدا، هي أحلامي، وهي لي وحدي، رغم تعذُّر تحديد الوجهة، إلا إنها تبقى مكتسباتٌ عزيزة حين تتوحَّشُ الحياة. تخيلتُ مرارا لو توقفتُ على الخط السريع ظُهرًا، ونافستُ تلك الصحراء بالتباعد... ثم مددتُ إصبعي لوكز غيمة، علَّها تسحبني أو تصعقني فأختفي، كنتُ أراها قريبةً بهذا القدر، ولعلها كانت أقرب ما يكون مني... هناك على الخط السريع اخضرارٌ للحياة لم يُؤخَذ بجريرة الصيف... هناكَ إبل منسية في أمان الله، بالكاد أُبصِر راعيها من بعيد، هو الآخر ملتحف بأمان الله في ظهيرة لم تحسن بنا وقتها حتى يبدأ الوسم جولته... أرقب على مدى أسابيع مُرّةٍ ذلك الأمان وأرفع رأسي بنداء خفي: «أتراني؟!» ... أناجيه بأنني أيضا كبقية خلقه الذين يبدون منسيين، ثم أكتبها صريحة: أبحث عن الأمان أنا أيضا مثل خلقك يا الله.. أكرِّرُ الطريقَ مفقودًا، وأعودُ غائبةً، كأنني أسعى بما لا يُرى... وحين أضع جبهتي في سجودٍ منكسر لك وحدك، ينصبُّ الرضا في قلبي ماءً منهمرا، فأحمدك بدل انطراحي بحاجاتي، وأنت علام الغيوب، تسمع نداءات خفية ومكتومة… لكنّ تلك الطُّرقَ تكاد أن تُفقِدَني صوابي لأضيع بالسؤال: «أحقا تراني؟» كل يومٍ أراني هناك، أقطع الطريق باتجاه الشمال، أتزحزح عن الخط قليلا حتى يمتلئ حذائي بعوالق الأرض، ألمس غيمةً بإصبع طفلة، أنشد جوابا مستحيلا، ثم أعود إلى شيء من واقعي بالتفاتة يائسة، أتامل النصف الآخر من الطريق كمن يتقلَّب على فراشه أرقًا، أخطئ وأنا أحسب مسافة العودة لا الذهاب، أستعجِل إجازات نهايات الأسبوع، وأخطئ في تصوراتي كثيرا لفرط مشاغلي… ثم أكرر السؤال: «أتراني؟!» … ولا يجيبني ربّي، لعلي أعرف أجوبته -جل جلاله- كيف تكون، ألتقطُها في وقتٍ آخر، وبطريقة أخرى؛ حيث يحضر الجواب منفردا بلا سؤال، عيانا، واقعا، تربيتةً... وبالمعاني العميقة التي تخنق أسئلتي بجلال حضورها... كنتُ أصحو قبيل الفجر محاوِلَةً تذكُّرَ المكان الذي نمت فيه، وأعيد سؤالي: «أتراني؟»، في ظل النسيان نفسه بقيتَ ما أذكره أي ربّ… ولا غيمة هناك، أو أمان عوَّدني دِعةً وألطافا؛ لولا تذكُّري أنني هاهنا في ظلك يا الله حين تأخذني بعفوك لأتذكرك وحدك… أتخيل هيبة ظلك فلا أرفع رأسي، بل يديّ، أنسى القِبلة وفقا لأحكام المكان الجديد، وأراجع التقويم والطقس ودبوسا على خريطةٍ إلكترونية لأتأكد من موطئ قدمي... لي ضلالي في هذا الوقت والمكان، لكنّ قلبي يحفظ وجهته والأسئلة... في الظلمة المريعة بعيدا؛ لا راعيا لليلتي سوى قلب أستيقظُ به، وعينٌ بالكاد ترى... ولا يجيبني ربي، لقد احتبستْ أجوبته كقطْر هذي الأرض أو أكثر... واحتباسُ جوابِهِ جوابٌ، يقولها قلبي بنبرة هادئة، كحكيم عاش قبلي ولن يموت أبدا، وأطمئنه بأنَّ العجلة ليست من صميم طبعي... وأنه رانَ عليَّ بانصراف الوجوه طويلا، إلا وجه ربي الذي يراني وإن لم يجبني... أشقُّ الطريق منذ زمن، قبل أن أبدأ بداية معوجة تخصّ بعض بلايا العمل، أدران الطريق التي رُزِقتُها على هيئة بشر، تندسّ في حذائي وتزعج خطوتي، هو ابتلاء آخر يراه ربي حتما... ابتلاء لا ناقة لي فيه ترعى ولا راعيا يَعُدُّ كَسبَهُ منها، ولي شوك الطريق، وإرثٌ من أدعية وذِكْر... أشق الطريق منذ زمن، ولا أقطع شيئا يُذكَر، حتى غفلتُ عما أنتظرُ، وهذَّبت الآلامُ ما بقي... ونسيتُ أشواكَ قدميّ بـ «الحمد لله». لا يجيبني ربي، رغم تغيُّرِ الأرض من حولي، وتغيُّر الوقت. طريقي الذي يتقلّب باستمرار ثابتٌ على نهجه معي، لكنني وصلت أخيرا إلى شيء ما، لعله عثرَ عليّ صدفة، أو لعله القدر الذي انتظر ضحكتي مختبئا... للفرحة صدمتها، وإلا كيف تُذهِبُ غيرها بتعابيرها الخاصة بها وحدها؟ حينها، ودون أن تسحبني غيمة أو أختفي فجأة؛ ينطلق جوابٌ بداخلي، يقول لي بحكمة الراوي العليم: «أراكِ»؛ فأُعيدُ سيرة الأمل، وأرى الطريق طريقا إلى ما يراه قلبي قبل أن أكون. إنه يراني، حتما كان يراني، لكنه كان يريد أن (يسمعني).