جلسة استثنائية مع “رائد الحداثة” في بلادنا.

سألتُه: هل الكتابة الإبداعية فعلُ تشظٍّ للذات واحتراق وهدم؟ أم هي فعل تجلٍّ وخلق ونمو؟ أم هي محاولة فهم؟ الفهم الذي يدور حول الداخل والخارج؟ أجابني: الإبداع/ طاقة حرة لكنها كامنة في كل فرد منا، كيف نخرج هذه الطاقة وبأي مسار هي ما يحدد كل ذلك. أن تكون في محضر الكبير(العلي)، يعني أن تكون في حضرة الفكر النَّير الذي يتوجب عليك أن توليه كل حواسك، في جلسة استثنائية، تشرفنا بزيارة رائد الحداثة في المملكة العربية السعودية الشاعر والمفكر محمد العلي في منزله الكائن بالدمام في محاولة لمد الجسر المعرفي عبر المثاقفة بين الأجيال. بعينين ذكيَّتين، وبملامح تفيض رقةً، وبقلبٍ خاشع للشعر وبانشداد منقطع النظير، ‏كان ينصت لنجوى الروح وهي تنسرب من أقصى نقطة في المخيلة، لم يكن كالفرزدق الذي خرَّ ساجدًا لأجل صورة شعرية، ولا كالشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي يقف حينما تباغته استعارة، بل كان يتشرب الشعر بكل جوارحه. ‏استطعت أن أبصر كيف يكون الشعرُ نهرًا ملتمعًا في العيون، وحينما يملأ دنان الشعر رأس “العلي” تخرج منه لازمته الشهيرة:  ‏” يا حلو “ ‏تشعر حينها أنك فزت بإعجاب جمهورك الأعظم! الشاعر الكبير الذي لم يمر على زيارتنا له أسبوعان، إلا وقد قرأ دواويننا وكتب عنها في عموده الأسبوعي  أشار إلى قصيدتي (لم يعرني الضوء يقينه) بهذا البيت: “ (كي ألثم الشفقَ المسكوبَ / من شفةِ الرؤيا  وأرشفَ من كأسِ السما وهجا) هنا نقف، بنشوة، أمام هذه الرؤيا التي ينسكب منها شفق لا يشبه شفق الشمس الذي هام به غيرها من الشعراء، بل هو شفق شعري ينبثق من الداخل، كأنه لمحة (وارد) بمعناه الصوفي، ويصور كأسا سماويا يتدلى مترعا بوهج أزلي.” العلي يعلمنا درسًا كبيرًا في التواضع الأدبي والعطش الدائم للمعرفة. فهو ليس من قائمة الروّاد الذين كتبوا الشعر فحسب، بل أعادوا تشكيل الوعي الجمالي والثقافي في زمن كانت فيه الكلمة تحبو نحو فضاءات جديدة. لم يكن شاعرًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل كان رؤية، وفكرة، وموقفًا فلسفيًا يلبس ثوب القصيدة. في لغته تختلط الحكمة بالتأمل، والتمرد الهادئ بالحنين العميق، والنص لديه ليس مجرد ترفٍ أدبي، بل هو موقف وجودي من العالم. لقد كان من أوائل من حملوا راية التجديد الشعري، لا بتمزيق القديم، ولكن بإعادة قراءته، وفهمه، وتجاوزه نحو أفق أكثر إنسانية وعمقًا.  كان شعره مرآة لعقله المتوقد، ولثقافته الواسعة، ولحساسيته تجاه قضايا الإنسان والمجتمع. وقلّما اجتمع في شاعر خليجي هذا المزج المتناغم بين الفكر والفن، بين الفلسفة والوجدان، كما اجتمع في محمد العلي، والذي تظل تجربته علامة فارقة في مسيرة الأدب السعودي الحديث، لا لأنها سبقت زمنها فحسب، بل لأنها بقيت قادرة على إثارة الدهشة، وطرح الأسئلة، وإلهام الأجيال.