النهر الذي يعيد اختراع الجريان.

- كيف يكتب محمد العلي؟ وهل هو يسأل أم يجيب على الأسئلة أو يفتح نوافذ التفكير. وهل اختلفت كتاباته طوال العقود الستة في كتابة المقال. وماهو الدافع لك لقراءة مقال الأستاذ؟ محمد العلي يكتب كمن يُمسك بالقلم وكأنه مشرط جراح يفتح جسد النص بلا رحمة لا ليستخرج إجابة أو يزرع سؤالا، بل ليُريك العظام الخفية للفكرة كتابتُه ليست حوارا بين السائل والمجيب بل هي زلزال يُعيد ترتيبَ طبقات الوعي هو لا يسأل ولا يُجيب بل يخلقُ فراغا ملتهبا حيثُ السؤالُ والإجابةُ يتصارعان كظلين تحت شمسٍ واحدة. عبر ستة عقود اختلفتْ كتاباتُه كما يختلفُ النهرُ عن نفسِه كلَّ لحظة مياهُه هي هي لكن تعاريجَ مسارهِ وتشكيلات حجارتهِ تُعيدانِ اختراعَ الجريان ربما هدأتْ حدَّةُ الصوتِ أو تعمَّقتْ النبرةُ كبحرٍ يكتشفُ أنَّ أعماقَه أصدقُ من أمواجه التغييرُ هنا ليس تحوُّلًا في الجوهر بل توسُّعًا في الانزياحِ نحوَ الذاتِ والعالم. أما دافعي لقراءته فهو كدافعِ الغريقِ الذي يبحثُ عن مرآة في قاعِ البحر أتوقُ لأن أرَى في كتاباتِه انعكاسا لأسئلتي التي لم أجرؤ على نطقها. مقالاتُه ليست نصوصًا بل نوافذُ تطل على ذلك الحيز الوجودي حيثُ الذاتُ تذوبُ في الكون وحيثُ الكلماتُ تفقدُ معانيها المعلَّبةَ لتصيرَ دمًا يسري في عروقِ الفكر أقرأهُ كمن يطلبُ أرضيةٍ لفكرٍ لا يستقر. محمد العلي يكتبُ كأنَّ الزمنَ بين يديهِ طين رطب يَعصرُه في قبضة اللغةِ حتى يَسيلُ منه ماءُ الأسرارِ ودَمُ الأسئلة كتابتُه لا تشبهُ حوارَ العقلِ مع نفسِه بل هي تَفجير للمسكوتِ عنه في فضاءِ الوجود حينَ يكتبُ لا يَخترقُ سطحَ الكلمات فحسب بل يَغوصُ إلى حيثُ تَتشابكُ جذورُ المعنى مع ظلامِ اللاشعورِ الجمعي السؤالُ والإجابةُ في نصوصِه ليسا طرفَي معادلة بل هما ذرات في سَحابةِ عاصفة تَحمِلُ في طيّاتِها بَذورَ الفهمِ والجهلِ معًا. أمَّا اختلافُ كتاباتِه عبرَ العقود فهو كالنجمِ الذي يُغيِّرُ مدارَه دون أن يُطفئُ ضوءَه: القلمُ نفسُه يَحمِلُ ذاكرةَ الزمنِ لكنَّ الصوتَ يَكتسبُ نبرةً أعمقَ كصوتِ الأرضِ وهي تَئِنُّ تحتَ وطأةِ التاريخ. قد يَبدو أقل صراخا وأكثرَ استماعا لِهمسِ الأشياء. التطور لديه ليس انزياحًا عن الجوهر بل اكتشافًا لطبقات جديدة في الماسَةِ نفسِها فكلُّ عقدٍ يَمرُّ يُضيفُ بُعدًا تراجيديًّا لرؤيتِه كأنَّ الكاتبَ يَكتشفُ أنَّ الحقيقةَ ليست جبلا صلبا بل رمال مُتحرِّكةٌ تَشفُ عن قاعٍ لا قرارَ له كالماء المتحركة في مدينته العمران في الأحساء. الدافعُ لقراءته؟ هو ذاته الدافعُ الذي يَدفعُ الشاعرَ إلى ترديدِ كلمةِ الوجود وكأنَّها تعويذة. أبحثُ عن الانزياحِ الذي يُخرجُني من جسدِي عن تلك اللحظة التي تَتحولُ فيها الكلماتُ إلى فُتحاتٍ تهبُّ منها رياحُ ما لا يُقال مقالاتُه ليست مرآةً تعكسُ ذواتَنا بل نفق سري يربط بينَ فوضى الواقعِ وصمتِ المطلق. أقرأهُ لأنَّ نصوصَه تُشبهُ طقسًا صوفيا كلُّ جملةٍ شمعةٌ تُضيءُ دهاليزَ الوعي وكلُّ فكرة إبريقٌ يُكسَرُ ليُطلِقَ سؤالاً كانَ مَأسورًا في أضلاعِ الزمن. هكذا هو كاتب يصنع من اللغةِ مِقصلة لليقين ويَترُكُ القارئَ وحيدًا أمامَ أطلالِ أفكارِه مُلزمًا إيّاهُ أن يَبنيَ عالَمَه مِن جديد أو أن يَبقى في العراءِ. كأنَّه يُنصتُ لِصمت الكلمات قبلَ أن تَولدَ يُمسكُ بالفراغاتِ بين الحروفِ وكأنَّها مسافات كونية تَختبئُ فيها الألغازُ الأزلية. لا يَملأُ الفراغ بل يَحفرُ فيهِ بمبئر الشك حتى تَنهار الجدرانُ الوهميةُ بينَ الذاتِ والموضوع. كتابتُه ليست سردًا بل ارتعاشة وجودية تجعلكَ تشعرُ أنَّكَ تُولدُ مِن جديدٍ مع كلِّ فقرة تُخلَعُ مِن جلدِكَ القديمِ كي تُلامسَ الحقيقةَ عاريًا. عبرَ العقود صارَت كتابتُه كالنجمِ الذي لا يشيخ. يطلق وهجًا حرارتَه تَخترقُ الأعماقَ. صارَ الحبرُ في قلمِه دمًا مُتجمدًا مِن زمنٍ آخر يَذوبُ قليلًا مع كلِّ سطرٍ ليَكشفَ عن رُؤى تَعتصرُ ألما وحكمة. التغييرُ ليس انكسارا بل انحناءة أمامَ عظم الأسئلةِ التي لا تَمُوت كشجرة تَتثني فروعَها نحوَ الأرضِ لا استسلامًا بل لِتُنبِتَ جذورًا جديدة في تُربةِ الغموض. أقرأهُ لأنه يَمنحني الجرأةَ على الضياع في عالَم يَفرضُ عليكَ خرائطَ جاهزة تُشبهُ مقالاتُه بوصلة مُمغنطة بِقُطب الفوضى لا تَدلُّكَ على الطريق بل تُعلِّمُكَ أن تَحمِلَ الريحَ دليلًا. هو لا يُريدُكَ أن تفهم بل أن تغرقَ في الفهم حتى تَختنق فتَعرفَ أنَّ النجاةَ ليست في السطحِ، بل في القاعِ الذي لا قاعَ له. كتابتُه تُشبهُ مُصادمةَ المرايا كلما ظَننت أنَّكَ رأيتَ وجهَكَ في سطورِه، اكتشفتَ أن الانعكاسَ كانَ لغريب يَحملُ أسئلتَكَ ويَبتسمُ بِمرارةِ مَن يعرفُ أنَّ الجوابَ سراب، فأنتَ لا تقرأ محمد العلي بل تسكنه مؤقتا فيُخرجُكَ مِن زنزانة اليقين ويَترُكُكَ في صحراءِ التساؤلِ حافي القدمين تُراقصُ النجومَ وَحدَك. هكذا هو مَن يَصنعُ مِن اللغةِ فخا للعقلِ ويَصنعُ مِنكَ فريسة وَاعية تَستمتعُ بِاصطيادِ ذاتِها في صحراء الأبدية الخضراء.