أوّل نبتة في القلب!

أوّل قصة حب عشتها كانت مع فتاة جبليّة تدعى سناء وهي، في حقيقة الأمر، لم تكن فتاة إلا عبر مجاز الطفولة. كانت نبتة جبلية وكنا نختلف عليها أنا وصديق طفولتي. اشتركنا في محبتها ومنحناها اسما. لا أذكر الاسم تحديدا، لكني أذكر أننا نمنح كل الأشياء من حولنا أسماء بمجرد أن نتعلّق بها وجدانيا، وعلى الفور تتسع مخيلتنا بإيجاد عوالم متعددة نحيا بها الحكايات المختلقة التي نصنعها من أجل التفاعل مع هذه الكائنات الصامتة.  لم نكن نختلف إلى سناء اختلاف عباد الأوثان، فليست علاقتنا بها علاقة عبادة أو نتخذها زلفى، كما لم نكن نزورها زيارة البستاني لحقله فلم نكن نرجو منها ثمارا تباع في سوق الخضار والفواكه، إنما كنّا نتهجّى من خلالها العالم ونعيش طفولتنا بطريقة الكبار! كانت سناء نبتة “سنا” وهو نوع من النبات المعروف يستعمل طبيا وله فوائد جمة؛ غير أن ذلك كله لم يكن يعنينا، فقد كانت علاقتنا مع هذه النبتة أشبه بعلاقة عاشقين يجمع بينهما موعد ولقاء، وهي ليست أكثر من كوة باتجاه عالم الخيال الخصب. لا، بل هي أكثر من ذلك، هي فتاة كانت نبتة، ثم دلفت إلى عالم الإنسان، فصارت امرأة نابتة على كتف الجبل.  ربما كانت تلك أول علاقة تربطني بامرأة، أو بتعبير أصح بعلامة عرفت من خلالها معنى أن تكون في العالم امرأة، ومعنى أن تكون كل نبتة حولنا امرأة مؤجّلة. كانت سناء تتشكّل في ذاكرتي بصور مختلفة، لكني ظللت حبيسا في صورتها الأولى، صورتها الجبلية في عزلتها بعيدا عن العالم إذ تشرف عليه من سفح الجبل، فكان موعدي معها يتجدد مع كل ذكرى على طلل، لهذا صارت المرأة في عالمي ذاكرة ومخيلة، أنزع إليها حنينا وأستشرف بها ولها حنانا يهب العالم مذاقه الحلو. ليست المرأة جسدا فحسب، رغم أن جسدها معبر إلى الوجود، وبوابة دخول إلى العالم، ورغم أن هذا الجسد ينطوي على مباهج تجتمع كلها في الحواس الخمس، إلا أن ذلك كلّه ليس إلا مدرجا من مدارج التفاعل مع الطبيعة في صورة امرأة، وما وراء ذلك من الإلهام والفرح الخالص هو ما تمنحه المرأة حين نتجاوز جسدها المكثّف إلى روحها الغامرة التي تفتح كل نوافذ التذكّر والتخيّل: بوابة إلى الماضي البعيد في أمومتها وسكنها الأول، وبوابة إلى المستقبل في عشقها وعشّها بين أغصان كل حلم جديد. لذلك لم يكن الأمر غريبا أن تكون علاقتي الأولى مع المرأة علاقة مع نبتة جبلية، كنت في البدء أجلس إليها مع صديقي جلسة تأمل طفولي، أو طفولة تأمل لا تتجاوز ابتكار شخوص من كائنات موازية لتقليد الكبار ومحاكاة العالم الخارجي، ثم لما كبُرْت كبُرَت النبتة. صارت شجرة ذات جذور وجذوع وفروع، صرت أراها في كل حلم نبتة متشبّثة بالقلب، توقظ شجني عند أية هبة لريح أو نفحة لنسيم عليل. على هذا النحو لا أرى في العالم بأطلاله وأطيافه سوى ظلال امرأة تلوّح بيدها في كل مشهد يستدعي الشعر، ففي كل طلل ذكرى حبيب ومنزل. كانت سناء هي أول كلمة تهجّيتها في معالم الوجود، وهي أول امراة التقيت معها في مشهد واحد على قارعة النظر. هكذا، كما يقول الثبيتي، تهجّيت حلما، لكن الحلم لم يتركني فور تحقق شيء منه، بل اتسع ليشمل عالمي بكل رموزه ومشاهده، حتى ليخيّل إليّ أنّي مغروز في حلم رمليّ، أو مغروس كنبتة جبلية في رؤيا واسعة المدى لا تزال رموزها تنسج حكايات أخرى في الغيب لم تكتمل فيها تفاصيل التلاقي. ربما كانت كل امرأة في نظري هي سناء، هي هذه النبتة الجبلية التي نبتت على كتف الجبل ولا تزال تومض في ذاكرتي وتلوّح لي في كل حلم، فهي ماض ومستقبل، وهي، رغم ما للمرأة من نزوع إلى المكان، هي التي تستطيع أن تقبض على زمن الرجل من طرفيه وتوقفه أو تعيده إلى نقطة البدء. كلما عدت إلى نقطة البدء، قبل أن أتشظّى في العالم، أجدني أكثر اقترابا من المرأة، في طفولتها، وأمومتها، ولاحقا في دلالها وهي تخطر عابرة تنفح الذاكرة بعطر الزمن الورديّ، الزمن الذي يحلم به شاب مثلي في ذلك الوقت، ولا يزال يتراءى لي في زمن الكهولة من نافذة التذكّر في سيرة التهجّي التي أتحسس سطورها كما يتحسس الصنّات ماء النبع. أمي. تلك المرأة التي بدأت في ذاكرتي من خلال حكيها شابّة في رعي الغنم، رعي لا يبعد كثيرا بالقطيع، ولكنه كان كافيا ليمنح أمّي كلّ حزن الرعاة عند كل فقد، فهي هذه المرأة التي تسكن ذاكرتي مثلما أسكن قلبها الغارق في كل حدث حزين يعبر حيّنا بموت قريبٍ أو بعيد. وتلك الطفلة التي تعاود الثقة بي مع كل زيارة، فنلعب ونلهو معا، حتى إذا انتهى وقت اللعب شددت شعرها وتركتها ملقاة داخل عويلها حتى تنصرف مع والدتها إلى أن تعود مرة أخرى للزيارة واللعب. وتلك الشابة التي للتو نضجت ولم يعد في وسع القلب أن يجد لها مطرحا سوى في الحلم الساذج، الحلم الذي يذهب بعيدا فيعيدها إلى شجرة حنّاء، أو نبتة سناء على كتف الجبل. هكذا صرت أتهجّى المرأة في حياتي، بعد أن لاحت لي دلالات جديدة وراء قصة الخلق، وبدء التكوين، وبعد أن بدت لي مشاهد الطفولة ناصعة من وراء تلال العمر ومشارف الزمن القصيّ. هل ما زلت أحمل الشعور ذاته تجاه كل امرأة؟ وتجاه كل شجرة؟ وتجاه كل نبتةٍ للتوّ تشقّ سقف الطين إلى عالم الروح وفضاءات التجلّي؟ إذ أتهجّى موقفي من المرأة، ابتداء بأمي، فأنا أتهجّى سيرة الوجدان لا سيرة الإنسان فحسب. أتهجّى كل كلمة هي نبتة في ذاكرة ذلك الطفل الذي كنته، وكلّ نبتة هي اليوم كلمة في سيرة هذا الرجل الذي صرته، الرجل الذي يلتفت إلى الوراء كثيرا بحثا عن النبع القديم ليعبّ منه ما وسعه ذلك حتى يرى الرّيّ يفيض من بين السطور وأطراف الكلمات. لم يكن، إذًا، هذا التهجّي، خارج سياق الزمن البعيد، ولا هو بعيدا عن سياق الزمن الجديد، فأن يلتقي طفل ورجل، شاب وكهل، فذلك معنى جديد لصديقين كانا يلتقيان عند نبتة الجبل، تلك النبتة التي كانت تومئ منذ تلك اللحظة بوجدان طفل سيكبر ويسيل طوفانا من الذكريات الغامرة التي لا تتوقّف عن التداعي ولا تتراجع عن أن تترك خلفها كلّ هذا الأثر. ويمتد بي هذا الأثر ليأخذ أشكالا عدة وشتلات من النبات الجبلي الذي كنّا نتتبّعه في الأودية والشعاب وعلى أكتاف الجبال. عدد وافر من النباتات والأعشاب البرية والجبلية: البشام، والأخريط، والحمّيض، والعتّير، وقرص الغراب، ودرج البنات. وبين سناء ودرج البنات مسافة من البوح العطري الذي ينفح القلب ويملأ الصدر انشراحا، وكأن كل أنثى هي في أساس خلقتها ليست سوى نبتة جبلية أو برية تدسّ عطرها تحت الصخور وفي أطراف الأودية وعلى أكتاف الجبال.