قصة قصيرة

تذكــرة سفــر .

بين يديه وهو على كرسيه في الطائرة يقلّبُ تذكرة السفر التي تقلّه من مطار إلى آخر، ساعات الانتظار طويلة جدًا، تتجاوز الست ساعات، ولكنه ظلّ يتأمّل تذكرتَه طويلاً، حين لامست الطائرةُ أرض المطار، جال فكره وعقله في احتمالات كثيرة، ماذا أفعلُ في هذا الوقت؟ هل أغادرُ المطارَ إلى مطعم قريبٍ أو مقهىً في ساحاتٍ عامرةٍ بالبشر؟ أم أبقى في المطار متأمّلاً هذه العيون التي تنتظر مثله أن تغادر إلى مكان آخر؟ حيث الغايات مختلفة والمقاصد متنوعة. فالمغادرون دائما يحملون قلوبهم لهفة أو يتركونها حسرة! المدرج يحتضن الطائرة ويضمّها إليه، وهي تسيرُ بهدوءٍ تامٍ حتى تقتربَ من حالة سكون مدهشة، تبدأ محركاتها تأخذ أنفاسها بعد عناء طويل ومسير متتابع وسهر مُضنٍّ، وجناحاها ينفثان آخر لحظات اللهاث في مضمار السماء، أما عجلاتها فهي تترنح بعد سباتها الطويل في كنف الطائرة، تتمايل بعد أنْ فتحت عيونها على نهار مشرق وقطرات المطر تغسلها بكل هدوء. حين توقفت الطائرة تمامًا رفع رأسه مُطلاً من نافذة الطائرة ليشاهد طائرة أخرى تدرج رويدًا رويدا في المدرج لكي تحمل أرواحًا أخرى إلى مكان آخر بعيد عنه. كان يرددُ في داخل نفسه: لماذا يعشق الناس السفر وفيه من الألم ما ينخر في القلوب ويؤذي النفوس، أليس السفر فقدًا! حين توقفت الطائرة تمامًا هبّ واقفا، فهو لا يحمل شيئًا معه، أما حقيبة السفر فقد تركها في جوف الطائرة ليستلمها في المطار الأخير الذي سينزل فيه، كان بلهفةٍ عارمة يخرج من جوف الطائرة، يبدو أنه في الآونة الأخيرة أصيب (بفوبيا الطائرات)، فتنتابه رغبة بالاستفراغ ويغزو قلبه قلق دائم حين يسمع حوادث الطائرات، ويدخل أحيانًا في حالة تبوّلٍ لا إراديٍّ حين تهتزُّ الطائرة في السماء، على الرغم من رحلاته الكثيرة إلا أنه يبدو عاجزا كليّا عن فهم هذه الحالة التي بدأت تسيطر على قلبه في آخر رحلاته. بدأ الركاب بالنزول، وحين وصل إلى باب الطائرة، التفت إلى المضيفة التي نظرت إليه نظرة ترحيب وقالت: مع السلامة. ظنّ هو أنّه نظرة إعجاب، وتمنّى أنْ يعود مرة أخرى إلى كرسيه لعلها أنْ تسألَه ما به؟ ولماذا لم يغادر الطائرة فقد انتهت الرحلة؟ تذكّر لحظاتِ صعودِه للطائرة حين نظرتْ إليه وألقى ابتسامة غير بريئةٍ ونظرات توحي برغبة تواصل جميلة. تنبه على صوت يقول له: لو سمحت. وكأنها دعوة للنزول، فنزل متمهلا في سلّم الطائرة ليراقب النازلين أمامه ويرصد حركات أجسادهم وطريقة مشيهم، حين انتهى من عمليّة النزول، التفت مودعًا، وتوجّه إلى حافلة صغيرة، وقف متأملا من حوله، لم يشاهد شيئًا مهمًّا أو مُلهمًا، ولذا غرق في لحظة وقوفه على باب الطائرة. سارت الحافلة وأخذت بالاستدارة في مدرج المطار، وتوقفت عن باب كبير، نزل الركاب ونزل مسرعًا، وتوجه إلى أقرب دورة مياه، حين خرج، بدأ يتلفت يمينا وشمالا، متسائلا: ماذا أفعل؟ السؤال الذي غرسه في ذاكرته حين قلّبَ تذكرته رجع إليه مرة أخرى، لم تكن سوى دقائق حتى وجد نفسه خارج المطار، زادت حدة الالتفات لديه بحثا عن (المترو)، ثم توقف عند رجل يلبس لباسا عسكريا، كان مُتجهمًا ولكنّه ابتسم: وسأله: أين الطريق إلى (المترو)؟ فأجابه العسكري: من هنا مشيرا إلى الأمام، وكأنه عرف أنه غريب وأنه جاهل لا يدري أين يذهب، فمسك بيده، وقاده إلى نهاية الطريق مشيرا نحو اليمين لكي يصل مباشرة إلى (المترو). وزع نظراته، حتى اقترب من لوحة إرشادية ترسم له خريطة الطريق لكي يعود مرة أخرى إلى المطار، المسار الأصفر هو مساري، حين تأمّل الخريطة أدرك أنّه إنْ ركب مسارًا آخر غير المسار الأصفر فإنّه لن يعود إلى المطار إلا متأخرًا، ولذا عقد مع نفسه عقدًا بألا يغيّر مساره، دفع مبلغًا زهيدا وركب في (المترو) كانت آخر محطة هي السوق الداخلي للمدينة. في طريقه إليه يجب على المترو أن يقف عند خمس محطات. كانت المقاعد من حوله خالية، عند المحطة الأولى: ركب شابان أبيضان، جلسا في مقعدين أمامه، كان حديثهما رياضيا، ولذا صرف سمعه عنهما وذهب في خياله، كانت الصوت المسجل للتنبيه لكل محطة قادمة صوتا أنثويّا إلا أنه أصيب منه بنوع من الإزعاج الداخلي والاستفزاز الذي لا يدري من أيّ شيء. في المحطة الثانية: ركبت امرأة تبدو في الأربعين من عمرها، والتجاعيد بدأت تأخذ من يديها مكانًا، ربما هي تصور آلامها وأحزانها، فمنذ ركوبها وجهت بصرها إلى الأرض، ولم ترفع رأسها إلا حين أتت المحطة الثالثة فنزلت، حينها ركبت خمس فتيات شابات، يبدو أنّ السعد ابتسمت له أخيرًا، ولكن سرعان ما تلاشت تلك الفتيات حين ذهبن إلى القسم الآخر، أدار وجهه وغرق في أفكاره مرة أخرى، حتى عاد الصوت المسجل مرة أخرى لينبه الركاب بأن المحطة القادمة هي الرابعة، حينها نزل الجميع ولم يبقَ إلا هو وحيدًا، اتسعت فجوة الحزن في قلبه (فالمترو) هو الحياة والنازلون هم الموتى، هكذا خطر في باله، ولم يستيقظ إلا على النداء الخامس حيث الوجهة الأخيرة إلى السوق الداخلي، حين نزل فُتحتْ أبواب (المترو) كلّها فنزل عددٌ كبيرٌ من الركاب من جنسيات مختلفة، ولم يشاهد أحدًا يلبس مثل ملابسه، شعر بالوحدة ثم ترجّل وآثر الوقوف قليلاً بحثًا عن علامة تدلُّ على مطعم قريب أو مقهى شعبيّ، اتجه نحو اليسار واستمر في طريقه حتى وصل إلى آخر السوق، حينها أدرك أنه ذهب إلى المكان الخاطئ فلم يجد مطعما ولا مقهى، أخذ يعود أدراجه إلى حيث نزل من ( المترو) شاهد آخرين يركبون، كان عليه أن يتأمّل أنّ الحياة تستمر وأنه الوحيد الذي وقف حائرًا، استمر في طريقه بعد أن تجاوز عددًا من المحلات والمقاهي الشعبية المكتظة حتى وصل إلى آخر الطريق، عاد مجددًا إلى حيث نزل مرة أخرى، هذه المرة آثر العودة إلى مقعده في (المترو) الذي اتخذه صاحبًا أثيرًا، وأدرك أنّ عليه الرجوع إلى المطار قبل رحلته الأخيرة بساعتين، فجلس على كرسيّه وآثر الصمت دون أن يتأمّلا شيئا جديدا.