زيد الشهري يكتب «في كل مكان.. من كل شيء»:
حينما يتخفف الكاتب من القضايا الكبرى ويتجه الى مشاعره الخام.

في كتابه الثاني الذي جاء تحت عنوان: “في كل مكان.. من كل شيء “، يكتب زيد محمد الشهري في نص “برعم “: “زرعنا الذكريات في كل مكان، في شوارع المدينة وأزقتها على شاطيء البحر، وقذفناها بعيدا، في أعماق الزرقة زرعناها براعم صغيرة، في المقاهي البعيدة، في شرفات الصباح، ومن غناء العابرين، براعم صغيرة صغيرة صارت الآن غابات من الحنين”. هذا النص كأنما ركيزة لبقية الكتاب، وكأنه فهرس لكل عوالمه وفضاءاته، وهواجسه، وبوحه، فالذكريات سنقرأها في أكثر من نص بتفاصيل أوسع، ومفردات البحر، والزرقة، والعابرين، ستتوزع على بقية النصوص، تطل بشهية الكتابة الشفافة التي لاتزهد، ولا تختصر، وإنما تبوح، وتعطي مفاتيحها بسهولة ومتعة إلى القارئ وبدون مبالغة في استعراض اللغة، بل يعبر عن عجزها الجميل في حضرة مشاعره: “تغدقني عيناك بالمطر، والكلمات، وما تعجز عنه لغتي كيف تأخذيني إلى كل الطرقات التي لم أكن أعرفها قبلك..” وفي نص آخر تستمر هذه الفكرة حين يكتب: “لن يلومني أحد وقد ملكت حواسي وأحلامي” يكتب زيد الشهري متخففًا من القضايا الشائكة والكبرى، ويذهب مباشرة إلى كتابة مشاعره الخام، مراهنًا على الإحساس والمشاعر المشتركة، التي لن نجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى دهشتها، وسنجدنا أمام ما يشبهنا من عبارات متصلة بما قد مر بنا في لحظة ما، تشهد معنا على حكاياتنا، يقول في نص الكلمات: “ الشاهد الأخير على قصتنا، هي الكلمات، نكتبها في الألم والفرح، نكتبها لنؤرخ لحكاية إحساسنا، نكتب الوفاء الذي تقاسمناه، على ضفة الحياة، نكتب جراحنا حين تقسو اللحظات، نلوذ بالعبارة التي تشرح انكسارنا، ننحتها في الروح قبل الورق”. بهكذا شفافية يأخذ القارئ إلى خارطة ما سيكتبه، مفشيًا له أسرار إلهامه، بل ويكشف حكاية وقوعنا في هذا الفخ، الفخ الذي يظل الكاتب يبحث عنه ليقع فيه مجددًا، فيكتب: “الكتابة مثل الفخ، أنت من تصنعه بنفسك، وأنت من تسقط فيه عمداً”. ثم في مقطع آخر يزداد اعترافه بما يلهمه، ويشير بشفافية ولغة محلقة وسهلة فيكتب: “يلهمني المطر، أسمع صوته عالياً بين الكلمات، يلهمني الليل الطويل، وأمشي بضوئي في المعنى”. إنه يريد أن يأخذنا إلى نزهة في عالم مشاعره الخاصة، يدخلنا في تجربته في الكتابة في أكثر من نص من خلالها، وكأنما يبرر سبب كتابته بأنها تلك الملهمة التي أهدته كل هذه الكلمات، فيكتب في نص نظرة: “وفِي كل مرة أحاول أن أخبئ عنك دهشتي، أخبئها فتنطق السطور.. أخبريني، أيُ شيء يندلع منهما كالسحر أهو الحنان المؤبد؟ أم حكايات لم تروها الحياة بعد؟”. ويكتب في مقطع آخر: “نظرة خلف نظرة وتولد في داخلي مئات الحكايات” ويشاركنا شيئا من آليات وطريقة كتابته في مقطع آخر حين يقول: “أشاهد لوحات الفن، وأصغي للفلسفة، ونقاشات الفكر، لعلي أَجِد شيئًا يفسر جنوني بك “، هذه الكتابة التي صار مدينًا لها وهي تمنحه كل هذا الوجود وترافقه في ليله الطويل وتقلباته، بين الأحزان والمسرات، يقول في إحدى المقاطع: “مدينٌ أنا للكلمات، طالما رمت لي طوق النجاة، حين يغرقني الليل “ إنه نص آخر يصلح لأن يكون موجزًا لما قام به كاتبنا في هذا الكتاب، الذي جاء بعباراته المقتصدة، ولغته السهلة، وأخيلته القريبة، وخياله الخصب، وصوره المألوفه، ونصوصه القصيرة، يكتب السهل الممتنع، القادر أن يغوص بنا نحو الأسرار، أسرار الحياة، وأسرار النص يقول: “بيني وبين كلماتي جسر صنعته الأيام جسر شيدته سطراً سطراً “. هذا الجسر الذي شيده خطوة خطوة، كي نعبر إلى عالمه وإبداعه، ونرى من خلاله مفارقات الحياة ودهشاتها من منظوره الخاص، وتلك الكتابة التي يعلن أنها باتت جزءًا لا يتجزأ ولا يمكن التخلي عنها، فيقول في إحدى النصوص: “تخيلت حياتي بدون الكتابة! تهت ولم أعرف وجهي في المرآة “. إنه التيه الذي لا يعرفه إلا من جرب لذة الكتابة.. وهو التيه الأنيق برغم الألم في بعض العبارات، التيه الذي وصل بنا إلى كل مكان، ومن كل شيء، حسب تعبيره. يذكر أن هذا الكتاب الإبداعي، هو الثاني بعد كتابه الأول “هناك من يكمل شيئًا فيك “وكأنما هي تلويحة لأن يعود إلينا قريبًا ملوحًا بفضاء جديد.