قصة قصيرة

شمس الثَّلاثين عاماً.

يستلقي على سرير في أحد أروقة المستشفيات قلقًا من نسبة نجاح عمليته في الغد، حتى مزق حبل أفكاره ظلٌّ لمحه يشبه الأموات في رداءٍ أبيض، ولا يقطع شحوبه سوى سمَّاعة الأذن بلونِها الأسود حول رقبته، والممرِّضة تنادي دكتور “مالك”. شحوبه أعاد ذاكرته ثلاثين صباحا حين أشرق الفجر مع صراخات طِّفله وهي تقطع الصَّمت في وُجوه من يتسمَّرون خلف ستار شرشف “معيضة”، بانتظار سليل “الشَّيخ عبدالرحيم” الذي طال انتظاره، ومع صوته تتفتَّقُ من وجوه جدِّه ووالده الابتساماتُ، حتى وهم لا يعون بالمشهد الذي تستلقي فيه “صالحة” غارقةً في بركةٍ من الدِّماء، وجبينها الذي ينُزُّ عَرَقاً لِيختلطَ مع دموع مخاضها. يقطع الابتساماتِ صوتُ “معيضة”، وهي تُسمي فيما يشبه من تنتابه نوبة هلعٍ.. “بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، يا ربِّ سترك، بِسم الله وأعوذ بالله من غضبه..”. يقطع ذلك صوت “صالحة” وهي تبكي، ولكن بُكاءها الآن لا يشبه بكاء صِراعها قبل لحظاتٍ لِلفظ طِفلها، هي تنتحبُ.  الشَّيخ عبدالرحيم خلف السِّتار يُنادي: “يا معيضة وشبك؟ يا معيضة هو الولد جاه شيء والا خنقه سره كما أخوه؟ هرجي يا مره”. تصمت “معيضة”، و”صالحة” تكتم صوت بكائها، ووالد الطِّفل “عبدالرحمن” يُراقب كلَّ شيءٍ بصمت الخائف، ولكن والده يقطع ذلك وهو يدفعه بيده؛ لِيدخل ويحلَّ لغز ما يحدث. يا خالة.. أبدخل.. تنشر “معيضة” شيلتها على وجهها وهي تمسكُ بسليل المجد بين يديها، وحين يدلفُ “عبدالرحمن” الغرفة ينتهي صوته، مع تعالي بكاء زوجته “صالحة”، الخالة تدفع بالطِّفل لِحجره، وتُتَمْتِمُ: “أنا اللي ولَّدت أمّك بايدي يوم أمَّك -الله يرحمْها- جابتك، وأحبَّك مثل عيالي، الله يعينك يا ولدي على مصيبتك، ولكن داروا عاركم وإن بغيت شوري ادفنه معها، وقولوا لِلنَّاس إنُّه مات مع أمّه يوم ولدته”. حين غادرتْ خرج وهو يحمل فجيعته بين يديه السمراوتين، ويزفُّه لِجدِّه الذي منذ أن أقبلَ في اتِّجاهه وهو يُحدِّق في وجه حفيده كمن قامتْ عليه القيامة، شعرًا أبيضَ، وجهًا أبيضَ، وعينين زرقاوين، كلُّ ما فيه مفزعٌ، وكأنَّما يُضيء بين ذراعيْ والده.  دلف الجدُّ يسعى لِـ “صالحة” وينعتها بأبشع الكلمات، ويذكر تاريخ كلِّ امرأةٍ زرعتْ بذرةً محرَّمةً في شجرة عائلةٍ طاهرةٍ، وينفث مع كلِّ كلمةٍ بصقةً، منها ما رشق بها ابنه، والكثير ممَّا غسل بها عاره الذي يستقرُّ في وجه “صالحة”. جاءتِ الخالة “سالمة” تدفع الصِّغار من حول “صالحة”، ومن حول العمِّ “مترك” حيث كان يواسي شيخهمْ ووالد الطِّفل، ويعده تنفيذَ كلِّ وعيدٍ ينطلق من الشَّيخ عبدالرحيم بأنَّ كلَّ ما يريده سيحدث، ولكن الأمر يحتاج لِتخطيطٍ؛ لِيكتمل سيناريو لا يشي بالحقيقة التي حدثتْ.  أخيرًا.. يصل الطِّفل لِصدر “صالحة”، وهي تغلِّظ الأَيمان على عِفتها وأنَّها مظلومةٌ، بينما أعين النِّساء تلاحِقها وهمزهنَّ كالمطارقِ في جسدِها.  وبعدها.. تلاشت صالحة مع العار الذي تآمر القوم على دسه ولم يجدوا سبيلاً سوى أن يسيرواً على نصيحة معيضة “ماتت هي والولد ودفناها”.  لم يعلم عبدالرحمن أنه حين نام الجميعُ في تلك اللَّيلة، استيقظت “سالمة” وهي تجرُّ “صالحة” والدِّماء تكبِّل أقدامها في ظلام اللَّيل؛ لِتقطع وادي الطَّلح وفي استقبالهم المكفول “إيراج”، وتدفعُها عبر مقعد الوانيت وتستودعُها الله وتوصي بها الرَّاعي: “خذْها ولا تعلِّمْ عمَّك إذا رجعت”، وتخبئ في جيبه حفنة ريالاتٍ وقروشٍ تصطك في جيبه، وهو يهزُّ رأسه يمنةً ويسرةً بالإِيجابِ. حينها أنطلق في جنح اللَّيل فضيحة “الشَّيخ عبدالرحيم” أو ما يعرف بـ “مالك”.. كما أطلقتْ عليه والدته؛ يعود لواقعه على تكرار نداء رفيقه: “يا عبدالرحمن، يا عبدالرحمن لا تخاف إن شاء الله عمليتك سهلة”. يُشير عبدالرحمن بسبابته نحو الطبيب وهو يُجيب رفيقه، أنَّه لمْ يرَ -منذ تنويمه- أيَّ طبيبٍ غير سعوديٍّ، ومن يرافقه يضحكُ، ويشير لِطبيبٍ: “تقصد هذا؟ هذا سعوديٌّ لكنَّ عنده طفرة “اسمها الألبينو “. *القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة نادي بيت السرد بالدمام للقصة القصيرة، وهي تنشر للمرة الأولى.