صخرة الوجه بين الكينونة وميتافيزيقا المكان..

تأمل هايدغري في حضور الطبيعة.

في الشهر الماضي كنت في زيارة مبهجة لمدينة العلا بين الرمال والمناطق الاثرية والصخور، لفتت انتباهي «صخرة الوجه» وهي تكوين صخري يقع في موقع الحجر الأثري، رأيتَها هناك صخرة بملامح وجه، أو وجه في هيئة صخرة، كان في قلبي ارتباك وجودي، وكأني رأيت شيئًا كنت أهرب منه منذ زمن! ثبات، صمت، خلود، هذه الثلاثية التي يخافها الإنسان؛ لأنه كائن من التغير، من الضجيج، من الموت المتحرك، تتميز هذه الصخرة بوجود نتوءات تشبه ملامح وجه إنسان يحدق في الأفق الصحراوي، نجد وجهًا بشريًا كأنه خرج من رحم الأرض ليحدّق فينا، أو لنُحدّق نحن فيه، فنرى فيه أنفسنا فمن هذه الصخرة ينبثق وجه لا يتكلم لكنه يقول كل شيء، فهذا الوجه لا يبتسم ولا يعبس، لكنه ينظر كأنّه يرى من خلالنا إلى ما وراءنا، وكأنّه يُذكّرنا بأن الإنسان رغم هشاشته يُشبه الصخور في شيء، فكلاهما يحمل في داخله تاريخًا صامتًا، يتحدث بلغة الوجود، اللغة التي سبقت كل لسان، والتي لا تُقال إلا حين يُصغى بإنصات الكينونة، هذا الوجه المحفور في الصخر ليس شكلاً بل انكشافًا، فالصخرة لا تحكي قصة بل تُعيدنا إلى ما قبل القصة إلى الدهشة الأولى، حيث الكائن يكون من العدم. إنها ليست مجرد صخرة، بل بيتٌ للكينونة لا يمكن أن تُفسَّر، بل ينبغي أن يُسكن إليها، أن يُجاور صمتها، فالصمت هنا ليس فراغًا، بل امتلاءٌ بالحضور، من ينظر إليها بعين التقنية يرى حجرًا، ومن ينظر بعين الوجود يرى الحقيقة وقد تَجسّدت في الصخر؛ مما يجعلها إحدى العجائب الجيولوجية في المنطقة، حيث تقف الصخرة شامخة وكأنها شاهدٌ على أسرار الوجود. إن صخرة الوجه ليست مجرد تكوين جيولوجي فريد، بل رمزًا فلسفيًا يعكس العلاقة بين الزمن والطبيعة والإنسان، فالتأمل فيها جعلني أطرح عدة تساؤلات فلسفية حولها وعن ماذا تخبرنا الصخرة بصمتها الطويل؟ وهل إذا نظر شخصان إلى الصخرة ورأى كل منهما شكلا مختلفًا، فأين تكمن الحقيقة؟ وإذا كانت الصخرة ستبقى بعد أن يختفي كل من رآها فمن الذي يمنحها المعنى؟ الصخرة ذاتها أم العيون التي تأملتها؟ وهل الصخور التي تبدو بلا حياة تمتلك نوعا آخر من الخلود الذي لا نفهمه بعد؟ أم هل الصخرة تعيش وجودًا خاصًا بها؟ أم أن الوجود مقتصر على الكائنات الحية فقط؟ وهل الصخرة تملك ذاكرة بطريقة ما، كونها شهدت آلاف السنين من الأحداث، أم أن الذاكرة مفهوم إنساني فقط؟ وهل يمكننا اعتبار «صخرة الوجه» عملاً فنيًا صنعته الطبيعة، أم أن الفن لا يكون إلا بيد الإنسان؟ وإذا كان الفن من صنع البشر، فكيف نفسر الإعجاب بصخرة لم يصنعها الإنسان؟ وإذا كانت الصخرة تشكلت عبر آلاف السنين، فهل نحن الذين نعيش لعقود قليلة قادرون على إدراك الزمن كما تعيشه الصخرة؟ وهل الصخرة ستظل كما هي إلى الأبد، أم أن عوامل الطبيعة ستغير ملامحها كما تغير ملامح البشر؟ فالإنسان يشيخ ويموت، بينما الصخور تبقى لآلاف السنين! فهل نحن أكثر هشاشة من الطبيعة؟ أم أن وجودنا أكثر قيمة لأننا نعيه؟ هذه الأسئلة لا تهدف إلى إيجاد إجابات نهائية، بل إلى إثارة التأمل والتفكير العميق حول علاقتنا بالعالم والطبيعة والوجود نفسه، فالصخرة بملامحها التي تشبه وجها بشريًا لم تتشكل بين ليلة وضحاها، بل عبر آلاف السنين من التعرية. هنا نجد انعكاسا لمفهوم الزمن العميق عند الفيلسوف هنري برغسون الذي يميز بين الزمن الذي تقيسه الساعات والزمن المعاش (التجربة الحية للوجود). فالصخرة تذكرنا بأن الطبيعة لا تتعجل، بل تعمل بإيقاعها الخاص على عكس الإنسان الذي يركض في سباق الحياة المعاصرة. لذلك نتساءل لماذا نرى وجها في الصخرة؟ هل هو إسقاط لو عينا البشري، أم أن الطبيعة تحاكي الإنسان دون قصد؟ وهنا يمكننا استحضار أفكار مارتن هايدغر خاصة في كتابه «الكينونة والزمان» أو «Being and Time» بأن الأشياء ليست موجودة فقط لأنها أشياء، بل لأنها تُظهر لنا شيئًا عن الوجود نفسه، وصخرة الوجه في هذا السياق ليست صخرة فقط، بل هي تجلٍّ للوجود الصامت، لكيف يمكن للطبيعة أن تقول شيئًا دون كلمات، هذا الوجه الصامت يضعنا أمام الدهشة الأولى التي تحدث عنها هايدغر تلك التي نشعر بها حين نواجه العالم كما لو كنا نراه لأول مرة، بلا تفسير مسبق. وبالنسبة لمفهوم «الوجود الأصيل» الذي أشار له هايدغر يجعلنا ننظر فيه بنظرة أوسع؛ ليشمل وجود الأشياء ذاتها فالصخرة لم تتشكل من رغبة بشرية أو تدخل صناعي، بل من تفاعل الزمن والطبيعة، فهي تقف هناك بلا حاجة لأن تشرح نفسها. تمامًا كما يرى هايدغر أن الكائن الأصيل لا يبرر وجوده، فحين يقف الإنسان أمام «صخرة الوجه» فهو لا يقف أمام صخرة فحسب، بل أمام مرآة للزمن، وفي تلك الصخرة التي نُحتت بفعل الزمن لا بفعل الإنسان، يكمن حضورٌ صامت، لا يسعى لإرضاء أحد، ولا لتمثيل شيء بل فقط يكون. ففي عالمٍ يغمرنا فيه ضجيج الناس وتوقعاتهم تبدو «صخرة الوجه» كنداء إلى العودة للذات ليست دعوةً للكلام، بل للصمت؛ ليست محاولة للتفسير، بل للإنصات، إنها تجسيد لما يعنيه أن تكون كائنًا أصيلاً أن تحتمل وحدتك، وأن تواجه الزمن لا بالخوف بل بالحضور، فصخرة الوجه تقف هناك بلا أقنعة، بلا تزييف، شاهدة على مرور العصور. لا تطلب معنى من الخارج، ولا تخفي حقيقتها إنها «تكون»، دون أن تُخضع كينونتها لحكم الآخرين. ويرى هايدغر فيها رمزية عميقة بأن الوجود الأصيل لا يحتاج إلى الزينة أو الصخب أو التفسير بل يكفيه أن يظهر كما هو في صمته وفي عزلته، وفي ارتباطه العميق بالأرض والزمان. فإن «صخرة الوجه» ليست فقط معلمًا طبيعيًا، بل هي تجسيد جمالي للكينونة الأصيلة. وانطلاقًا من مشروعه الأنطولوجي يعيد هايدغر تعريف الجمال لا بوصفه موضوعًا للتذوق، بل بوصفه نمطًا من انكشاف الكينونة، ففي مقاله الشهير «أصل العمل الفني»، يرفض اختزال العمل الفني إلى «شيء جميل»، بل يراه مكانًا ينفتح فيه الوجود ذاته، حيث يستدعي الكلمة اليونانية «Aletheia» وهي الحقيقة بوصفها انكشافًا؛ ليعبّر عن هذا المفهوم الجديد للجمال. فالجمال وفقًا له لا يغطّي الحقيقة، بل يُزيح الحجاب عنها، ويمنحنا لحظة نادرة من الحضور، كما هو الحال مع صخرة الوجه حيث تتكشّف الكينونة لنا دون وساطة مفاهيمية أو تقنية، ومن هنا لا يعود الفن تمثيلًا للعالم، بل إقامةً له. فالعمل الفني في نظره يؤسّس عالمًا، يفتح أفقًا للكائن كي يظهر، وفي هذا الظهور يكمن الجمال، إن هذه الرؤية تنقل الجمال من دائرة الذوق إلى دائرة الأنطولوجيا، وتحوّله من خاصية تُنسب للأشياء إلى طريقةٍ في حضور الوجود ذاته. ختامًا، إن صخرة الوجه ليست ملفتة لأنها تشبه وجهًا بشريًا فقط، بل لأنها تكشف لنا عن شيء من الوجود ذاته، شيء لا يُقال، لكنه يُحَسّ، ويُنصت إليه. ففي صمتها تفتح الصخرة بابًا إلى ميتافيزيقا المكان بوصفه مجالًا للكينونة، وتدعونا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالعالم، لا بوصفنا مالكين له بل كمجاورين، شهود على حضوره، وبين الأرض التي تقاوم الانكشاف، والعالم الذي يمنح المعنى، هناك فقط تبدأ الفلسفة، وتبدأ الدهشة الأولى من جديد. * باحثة دكتوراه بقسم السياسات التربوية جامعة الملك سعود