نداء الطبيعة وضرورة الاستجابة!.

في ظل الانفتاح السياحي المتسارع الذي تشهده المملكة العربية السعودية، ومع تزايد أعداد السكان والزوار في مختلف المدن، أصبحت الحاجة إلى توفر دورات مياه عامة نظيفة ومهيأة من أبرز التحديات اليومية التي تواجه المواطن والمقيم على حدٍ سواء. فالكثير من أصحاب المحال التجارية الواقعة على الطرق الرئيسية يُفاجَؤون يوميًا بأسئلة متكررة من المارة: “هل لديكم دورة مياه؟”، في ظل غياب البدائل المناسبة في الأماكن العامة. ورغم أن هذه الحاجة طبيعية وإنسانية، إلا أن التعامل معها لا يزال يتم بطرق غير منظمة، مما يضطر البعض، وخاصة قائدي سيارات الأجرة من الوافدين، لاستخدام أماكن غير لائقة لقضاء حاجتهم، في مشهد غير مقبول نتيجة غياب الحلول. نحن اليوم في وطن يسير بخطى واثقة نحو تنمية شاملة في مختلف القطاعات، ومن المهم أن تشمل هذه التنمية الجوانب المرتبطة بالحياة اليومية والكرامة الإنسانية. فخدمة دورات المياه العامة تُعد من أبسط الحقوق في أي مدينة عصرية، وهي من علامات التحضر التي تقاس بها جودة الحياة. وفي كثير من دول العالم، لا تكاد تخلو حديقة، أو متنزّه، أو ساحة من وجود دورات مياه عامة ونظيفة، سواء مجانًا أو مقابل رسوم رمزية. ففي أوروبا، تُدار هذه المرافق باحترافية وتُفرض رسوم رمزية مقابل استخدامها. أما في الولايات المتحدة، فتُعد هذه الخدمة من الأساسيات في المنشآت العامة والطرق السريعة. وقد لمست بنفسي هذا الاهتمام أثناء زيارتي إلى تركيا، حيث تُفتح دورات مياه المساجد للعامة في أغلب أوقات اليوم، وتُدار بطريقة منظمة، بل وتُستخدم مقابل رسوم رمزية تهدف إلى تغطية التكاليف التشغيلية، وهو ما يعكس إدراكًا عمليًا لأهمية هذه الخدمة من جهة، وأسلوبًا مستدامًا في إدارتها من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، أرى أهمية دراسة مقترح فتح دورات مياه “الجوامع الكبيرة” الواقعة على الطرق الرئيسية داخل المدن، بحيث تكون متاحة من قبل صلاة الفجر وحتى الساعة العاشرة ليلاً. ويمكن إسناد مسؤولية الإشراف إلى الإمام أو المؤذن، مع وضع ضوابط صارمة وعقوبات في حال التقصير من العاملين المخصصين لها. كما يمكن فرض رسوم رمزية (ريال أو ريالين) عند استخدام دورات المياه، وذلك لتغطية تكاليف الصابون والمناديل وغيرها من الاحتياجات الأساسية، مما يضمن استدامة الخدمة ونظافتها. ولا شك أن المملكة بما تملكه من بنية دينية كبيرة تمتلك الإمكانات لتطبيق هذا النموذج. فبحسب إحصائيات وزارة الشؤون الإسلامية، يبلغ عدد الجوامع التي تُقام فيها صلاة الجمعة أكثر من 15,000 جامع، إلى جانب ما يزيد عن 3,800 مصلى للعيد، تنتشر في مختلف المدن والطرق الرئيسية. وهذا العدد الهائل يتيح فرصة حقيقية لتحويل عدد من هذه المواقع إلى مراكز خدمية متكاملة، دون الحاجة إلى بنى تحتية إضافية أو أعباء مالية جديدة، إذ إن الماء والكهرباء ورواتب العاملين قائمة بالفعل، سواء استخدمت دورات المياه طوال اليوم أو في اوقات الصلاة فقط. مع التأكيد على أن توفير الماء للوضوء يظل خدمة مجانية تعبّدية لا يجوز المساس بها، في حين يمكن فرض رسوم رمزية على استخدام دورات المياه بهدف تغطية التكاليف التشغيلية وتحقيق النظافة والاستدامة. تنظيم هذه الخدمة يعكس صورة حضارية وإنسانية للمملكة، ويعزز من جاذبيتها السياحية، ويقدم نموذجًا يُحتذى به في مدن العالم الإسلامي. ولو أن الدول المتقدمة تمتلك عدد المساجد الذي تتميز به بلادنا، لما ترددت في توظيفها لتقديم خدمات عامة راقية تُدار باحترام واحترافية. ختاماً: أتمنى على مجلس الشورى دراسة هذا المقترح بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية والهيئة العليا لتطوير المدن، ليكون لنا دورٌ رائد في تقديم نموذج حضاري وإنساني يُعمم على مختلف المناطق والمحافظات، ويليق بمكانة المملكة وتطلعات رؤيتها المستقبلية.