من الجملة إلى الفعل ..

تحليل الأفعال الكلامية في السياق البلاغي العربي.

في ليلٍ صاخب لا يعترف بالسكوت، وفي مشهد يُشبه بدايات المعلّقات التي لا تستأذن في الولوج، تأتي الكلمات الأولى وكأنها صيحة في وجه الصمت. ليست الكلمات مجرد تعبير عن الرغبة، بل هي فعلٌ كامل يُحدث أثرًا، يوقظ الحضور، ويحوّل المتلقي إلى طرف في الحدث. هكذا تبدو البلاغة العربية حين تُقرأ من زوايا الأفعال الكلامية، حيث لا يكون القول وصفًا لما هو كائن فقط، بل خلقًا لما يجب أن يكون. في عالم البلاغة، لا تكون الجملة وحدة لغوية تُقيَّم بمعزل عن قصد المتكلم ومقام السياق، بل تُفهم بوصفها ممارسة لفعلٍ ما. وهذه هي نقطة التماس التي تفتح الباب بين الجمل الخبرية والإنشائية من جهة، ونظرية الأفعال الكلامية من جهة أخرى، لا باعتبارها مصطلحات نحوية جامدة، بل باعتبارها أشكالًا وظيفية تُمارَس داخل اللغة. حين قال أوستن عبارته الشهيرة: “أن تقول شيئًا، هو أن تفعل شيئًا”، كان بذلك يُعيد تعريف الكلام بوصفه أداة تأثير وتغيير، لا مجرّد وسيلة وصفية. وقد وضع أوستن تصنيفًا ثلاثيًا للأفعال الكلامية: أولها الفعل اللفظي (Locutionary Act) الذي يتمثل في إنتاج الجملة بصيغتها النحوية والدلالية، وثانيها الفعل التضميني (Illocutionary Act) الذي يكشف قصد المتكلم من وراء الجملة، وثالثها الفعل التأثيري (Perlocutionary Act) الذي يظهر في الأثر الناتج لدى السامع. هذا التصنيف ألقى بظلاله على فهم الجمل داخل البلاغة العربية، وفتح أفقًا جديدًا لتأويل القول بما يتجاوز ظاهره البنيوي. إذا تأملنا الجمل الخبرية، نجد أنها تقليديًا تُعرف بأنها ما يحتمل الصدق أو الكذب. غير أن هذا التعريف، وإن كان دقيقًا نحويًا، لا يكفي بلاغيًا لتحديد وظيفتها. فالجملة الخبرية كثيرًا ما تُستخدم في مواضع إنشائية. تأمل مثلًا من يقول لضيفه: “أنت كريم”، في مقام الطلب؛ أو يقول: “ما شاء الله عليك!” في مقام الإعجاب؛ أو يقول: “عندك ضيوف!” في مقام التنبيه أو حتى التوبيخ. في كل هذه الأمثلة، الجملة الخبرية تخدم غرضًا يتجاوز الإخبار، وتتحول إلى أداة إنشائية بامتياز. وفي المقابل، الجمل الإنشائية التي يُظن أنها لا تؤدي إلا وظيفة الأمر أو النهي أو الاستفهام، قد تحمل في طيّها رسالة خبرية، أو تعبيرًا عن شعور، أو إعلانًا لموقف. في نصوص الشعر العربي القديم، نجد افتتاح القصيدة الإنشائي لا يقف عند حدود الطلب أو التمنّي، بل هو في ذاته إعلانُ وجود، وبدايةُ فعل كلامي يؤسّس لمقام المتكلّم. وهذا بالضبط ما نلحظه في بنية القصيدة الجاهلية، حيث يُستعمل الإنشاء لا فقط لإثارة الانتباه، بل ليؤدي وظيفة تهيئة نفسية وإعلامية وبلاغية للمتلقي، تمهيدًا لغرض القصيدة الأكبر. بهذا المعنى، لا يُمكن فصل الجملة عن وظيفتها الخطابية ولا عن مقامها. فالفعل الكلامي الحقيقي يتشكّل من تفاعل هذه العناصر: النية، السياق، والبنية اللفظية. لذلك فإن الجملة الواحدة يمكن أن تحمل أكثر من فعلٍ كلامي بحسب السياق. عبارة بسيطة مثل: “هل أعددت القهوة؟” قد تكون سؤالًا بريئًا، أو تلميحًا بالغضب، أو دعوةً للاستعداد، أو حتى اختبارًا للوفاء. وكل هذه المعاني تُستنتج من السياق، لا من ظاهر الجملة فقط. هكذا تُعيد نظرية الأفعال الكلامية ترتيب العلاقة بين الجملتين الخبرية والإنشائية، فتكشف عن طبيعتهما غير الثابتة. فالجمل لا تنتمي إلى نوعها النحوي بقدر ما تتحدد بوظيفتها المقصودة، وهذا يتفق مع ما لاحظه البلاغيون العرب حين فرّقوا بين القول والمراد منه، وبين الدلالة الحرفية والدلالة البلاغية، وهو ما يظهر في تحليلهم لمقامات التعبير في النصوص القرآنية، والخطابية، والشعرية. وفي كل ذلك، تظهر البلاغة العربية ليس بوصفها علماً للزينة اللغوية، بل علماً للفعل اللغوي؛ علماً يُسائل الجملة عن قصدها، وعن أثرها، وعن علاقتها بالسياق. فالبلاغة الحقيقية لا تتجلّى في نوع الجملة، بل في القوة التأثيرية التي تملكها، وفي استراتيجيتها في توصيل المقصد. وهذا يعيدنا إلى ما تُجيده العربية بامتياز: أن تقول أقل، وتُفهم أكثر. كل جملة بلاغية، سواء أكانت خبرًا أم إنشاء، هي مشروع لفعل. وكل فعل لغوي يحمل في ذاته طاقةً دفينة لا تخرج إلا حين يُنطق في مقامه الصحيح، وبنيته الصحيحة، وبحضور متلقٍّ واعٍ. وهذا هو جوهر البلاغة الحيّة، بلاغة لا تكتفي بأن تُقال، بل تسعى لأن تُفعل. المراجع التي تم الرجوع إليها: •أوستن، جون . كيف ننجز الأشياء بالكلام، ترجمة: عبدالرحمن العمري، المركز الثقافي العربي، 2009. •الجرجاني، عبد القاهر. دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني، 1986. •ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، دار الفكر، 1985. •محمد غنيمي هلال، البلاغة العربية: أسسها وعلومها وفنونها، دار النهضة العربية، 1973. * باحثة في اللسانيات التداولية