مدرسةُ الأذانُ المدنّي.. تجلِّيات الجمال..
الأذانُ في تعريفه الشرعي: (الاعلام بدخول وقت الصَّلاة بألفاظٍ مخصوصةٍ مأثورة)، وهو الأداء الصَّوتي والحركي الذي يُعدُّ مُفتَتحًا لشعائر هذه العبادة العظيمة، والركن الأجلُّ من أركان الإسلام، وبَشير الإعلام بها، ودخول وقتها. ولهذا المُفتتح الشرعي شروطه وسُننه المعلومة لدى المؤذِّنِين، ولجانبه الحركي هيئة يعلمونها، ويلتزمون بها، وهي خافية إلا على من يشاهدون المؤذِّنَ وقت رفع الأذان. غير أنَّ جانب الأداء الصَّوتي هو جوهر الأذان، وهو مدار قيمته ومادته الأساس، وفيه تتحقَّقُ غاية الشارع ومقصد الشعيرة، وتُستهلُّ شعائر الفريضة، وهو الأجلى والأكثر تماسًا وصِلةً بالسَّامعين، من المصلِّين وغير المصلِّين. الصوت بمواصفاته ونبراته وحدَّته، أو خفوته أو جهارته، والتنويع في أدائه على مقامٍ معيَّن وتنغيم محدد، يتداخل أو يتناسق أو يتعاظم في جُملةٍ من جُمَل الآذان ويُباينها في أخرى، والمعوَّل عليه هنا، هو كليَّة الأداء ومجموعه بوصفه كتلة صوتية واحدة، مُكوَّنة من كلماتٍ وجُمَلٍ ووقفات؛ من شأنها شدّ انتباه المستمع من عدمه، ومن شأنها اجتذاب التَّأمل عبر تلقِّي الصوت بكلماته وجُمَله وامتداده ووقفاته، إلى نهايته. وكم من مؤذِّنٍ استدعى سماعًا واجتذب حواسًا وحملها على الإصغاء، وحرَّك في الوجدان مكامن الاستشعار الحي، والتَّذوق والتَّفكُّر والتَّدبُّر. والأذانُ المدنيُّ نسبةً للمدينة المنورة ومسجدها النبوي الشريف، مظهرٌ من مظاهر الثقافة الأصيلة في البلدة الطاهرة، وقيمةٌ عظيمةٌ من قيمها في جانبها الروحي، وخصوصيتها؛ المتمثَّلة في طبيعة أصوات المؤذِّنِين، واكتنازها بمقوِّمات الأداء المختلف، رفيع الشأن عظيم القَدْرِ فريد الأثر، ثري التفاصيل والأبعاد. على نحو ما تحدَّث عنه الأدباء المدنيون في سِيرِهم الذَّاتية، من أمثال: (محمد حسين زيدان، وعزيز ضياء، وعبدالعزيز الربيع، وعاصم حمدان، ونزار عبيد مدني)، ونفرٌ من الرَّحالة العابرين. كلُّ أولئك، وغيرهم، أفضوا بما لم يزل باقيًا راسخًا في نفوسهم: (صوت الأذان المدني) العبقري الفاتن الأخَّاذ.. وجُلُّهم أدباء ذَوَّاقون، يدركون خصائص الصوت، وأسرار النَّغم ومكامن الجمال البديع..، وجميعهم تفنَّنوا بسرد جماليات صوت الأذان من المسجد النبوي، وطراوته وحلاوته، وعذوبة أدائه، وتحريكه الحواس وولوجه وجدان السَّامع، وتواتروا على أنَّ ذلك هو ما تبقَّى في ذاكرة كلٍّ منهم من جُملة الأصوات الروحانية المنغَّمة، التي فاحت من رحاب المسجد النبوي الشريف. الأذان المدنيُّ، أصوات تتصاعد للسماءـ أو تتنزَّل منها.. هكذا تجيش في وجدان سامعه المشاعرُ، ويُستثار الشَّجن، ويفيض البهاء، وتغرِّد الأرواح، وتتهادى السكينة تطوف في آفاق المكان لحظة الأذان، وهكذا هي بعض آثار الحالة؛ حين يبدأ استهلال نداء الحق الأعظم: الله اكبر الله اكبر. وهو هنا..؛ ليس فرضًا كفائيًا مجردًا من خواصِّه الفنية، وأُصول الإلقاء، وقواعد أدائه وتلاوة مقاطعه على هذا المقام أو ذاك، وطبقات المقام ودرجاته، ولوجًا في أحدها، وصعودًا إلى آخر، وابتداءً بمقام وختمًا بغيره، وتخيُّرًا لمقامٍ في صَلاةٍ.. ومقامٍ غيره في صَلاةٍ أخرى، فهي نُظُمٌ وقواعد واعتبارات تقتضيها الأحوال والأوقات والمواسم، ولذلك نال الأذان المدنيُّ تلك الشُّهرة والذيوع، وتردَّد في الآفاق تلقيًا وتسجيلاً وتناقلًا، وتداولًا محفوفًا بتعابير إعجاب وانبهار وإكبار؛ لأنَّه وجهٌ من وجوه الثقافة المدنيَّة ومظهر لتجلِّياتها، في بيئة عُرفت منذ الأيام الأولى للهجرة النبوية الكريمة، بالحفاوة بالصوت وعوالمه ونُظُمه وقوانينه ومشاهد أدائه. ومن ثمَّ تجلَّى فنُّ الأذان بوقاره وجلاله ومكانته العليا ومنزلته الدينية الرفيعة، بين الفنون التي شاعت في الثقافة المدنيَّة، وكان مكوِّنًا من مكوِّناتها ذات الأثر المكين في الوجدان الإسلامي الجمعي. فنٌ أدرك المدنيون أسراره ومفاتيحه وأُصوله، ومقامه العليّ، واشتهرت أسرٌ مدنيةٌ بعينها، بهذا الفنِّ والفرض الأجلِّ، الذي ما برح يتبوأ مكانة قريبة من المكانة التي اتخذتها الإمامة في المحراب النبوي الأعظم، ودروس العلم وحلقاته في أروقة المسجد الشريف. فللمؤذِّنِين جماعة، وللجماعة شيخ يقوم على شؤونها، وللصَّنعة الشريفة أُصول وقواعد وتقاليد ومهارات وخصائص وسمات، تتوارثها الأسر المدنيَّة، من البيوت العريقة التي حظيت بنيل شرف أداء المهمة الجليلة، من أمثال: آل الخاشقجي، والبخاري، والنجدي، والحكيم، والنعمان..، وغيرهم. وجلُّها، وغيرها، توارث أبناؤها مهمة الأذان، ومنها ما توالت فيه أربعة أجيال، يَخلُفُ اللَّاحق منهم السَّابق؛ أداءً للأذان من مُكَبَّرِية المسجد الشريف، الزَّاهية بقربها من الروضة الشريفة الطاهرة، التي أنشأها الخليفة الأُموي عمر بن عبدالعزيز عند توسعته المسجد النبوي عام 91 ه، وهي التي يصعدها المؤذِّنِون قُبيل أداء الأذان، ويجتمعون فيها قُبيل وقت الصلاة وأثناءها وبعد أدائها، ولاتزال قائمة منيرة ببهائها إلى اليوم، مع تعديلاتٍ كثيرة مرَّت بها خلال مدَّة الحكومات التي تعاقبت على المدينة، حتى العهد السعودي الزاهر، التي حظيت خلاله باهتمام كبير بعمارتها، وجمال هندستها وأناقة مظهرها. وكانت إلى جانب مآذن أربع أخرى يُرفع منها صوت الحق صدَّاحًا مُجلجلًا في أرجاء المدينة، حتى عام 1400ه، الذي جُعل فيه الأذان بمؤذِّنٍ واحد، مُفيدًا من تقنيات مكبرات الصوت وجودتها، وقدرتها على إيصال الأذان بوضوح. وخلال تلك المدَّة وبعدها، وحتى الآن؛ اكتسبت مدرسة الأذان المدني عراقة، وأصالة وخصوصية ميَّزتها عن غيرها في كل أنحاء العالم الإسلامي، وتراكمت خبرات المؤذِّنِين بفنون الأداء الصوتي، وجهارته، وندواته وجمال نبراته ومقاطعه، والتنغيم الأخَّاذ في جمله بداياتها ونهاياتها، وأداء إحدى جُمل الأذان أو جُملتين منه بداية بنَفَسٍ واحد، أو خلاف ذلك في جملٍ أخرى تالية، والتزام مقامات صوتية معينة عُرفت في بيئة المدينة المنورة، يجيد المؤذِّنِون درجاتها وطبقاتها، ويتخيَّرون الأنسب منها لوقتٍ ما من أوقات الصلوات الخمس. ويحكم التفاوت في ذلك اعتبارات متفقٌ عليها ضمنًا، ومُدرَكة بمهارات المؤذِّنِين وخبراتهم الحسيَّة، وأذواقهم الجمالية، ومعرفتهم بخصائص التواقيت والمواسم الدينية بتنوعها، وسمات كل منها. والفُروق والخصائص وسمات الأداء الصوتي في الأذان بعامة، من المسائل التي وردت عند العلماء المسلمين الأُول، وأصَّلوا القول فيها؛ فالإمام النووي رحمه الله، يقول: (يُستحبُّ للمؤذِّنِ أن يقول كل تكبيرتين بنَفَسٍ واحد، فيقول في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر بنَفَسٍ واحد، ثم يقول الله أكبر الله أكبر بنَفَسٍ آخر)، وإلى مثل هذا القول أشار الامام ابن حجر العسقلاني. مما يعني وجود الجذر التأصيلي لمسألة جمال الأداء الصوتي في الأذان، وفنونه في تراثنا الديني. مسألةٌ فَقِه المؤذِّنِون المدنيون أُصولها، وأدركوا أهميتها، وتوارثوا طرائق تطبيقها، واستشعروا أثرها البالغ في المستمعين؛ التزامًا بغايات الأذان، بوصفه إعلامًا بحلول وقت الشعيرة، وإشاعة للطمأنينة والسكينة والخشوع، وتحقيقًا للتجلِّي الأعظم للحِكْمة من هذا النِّداء الحسِّي والروحي، الذي يعلو في الآفاق، يربط السَّائر على الأرض، بصوت الحقِّ الصَّاعد إلى السماء، وداعيًا وهاديًا للصَّلاة والفلاح، ومتضمِّنًا كلمة التوحيد، ومختومًا بالحقيقة الوجودية المطلقة: لا إله إلا الله. معانٍ عُليا، وأبعادٌ عُظمى تنثال كلما صدح المؤذِّنُ بصوت الحق، وكلما كان الصوت جامعًا لمقومات التأثير والأداء الجمالي المتقن، وكان صاحبه على دراية بأُصول الأداء وطبقاته الصوتية ودرجاته؛ كلما تحقَّقت تلك المعاني والأبعاد، واتَّصل السَّامع بدلالات الأذان وأثره النفسي والروحي. وأظنُّ مدرسة الأذان المدني، قد حازت جُلَّ تلك المقومات، وأدرك رموزها أهميتها وأثرها، فصاروا محلَّ حفاوة السَّامعين بأصواتهم الشَّجيَّة، بتنوعها وطبقاتها وخاماتها، وتردُّداتها الرنَّانة وأبعادها التأثيرية. ومن الملاحظ أنَّ المعاصرين من المؤذِّنِين المدنيين، قد تباينت المراحل العمرية بينهم، من الثلاثين إلى ما فوق السبعين، ولكلٍّ منهم ما يميزه؛ فتوة وعراقة، وجلجلة وطراوة، ودقة وجهارة، وتمكُّن في مقامات صوتية، ووصل بين درجاتها، إلى جلِّ ما في هذا الفنِّ من خصائص وتفصيلات. وهو ما أكسب هذه المدرسة مزيدًا من الثَّراء والإثراء، والقبول والتأثير والاستجابة والتقدير من الشعوب الإسلامية التي تغشى المسجد النبوي على مدار العام، أو تُتابع مشاهد البثِّ المباشر للصلوات من أفيائه الطاهرة، عبر أقنية البثِّ ومنصَّاته المتعددة، لتبقى هذه المدرسة العظيمة؛ دالًّا حيًّا على ثراء الثقافة التي تنتمي إليها، وتنوُّع مصادرها ومظاهرها في المدينة النبوية المنورة. ولا غرو إن تملَّكتْك رهبة ورعشة وطمأنينة وجلال، إذا ما أنصَّتَ لصوت الريِّس محمد ماجد حكيم، أو عمر نبيل سنبل، أو محمد مروان قصَّاص، يرفع أحدهم الأذان، فينثال الصوت صدَّاحًا صائتًا بنداء الحقِّ والروح، صاعدًا السَّماء ومتنزِّلًا منها، وعابرًا المساحات التي يصلها النداء الأعظم في ساحات المسجد الشريف، فثمَّة ألوان وأنوار وروائح؛ وتجليَّات لهذا الصوت الشَّجِي، يتلوَّن في كل كلمة، ويضيء في كل جملة، وتفوح الرحمة منه في كل مقطع، مخترقًا اللحظة، ومُشيِّدًا (الحالة)، وعامرًا إياها بالسكينة والمهابة والطمأنينة، شادًا الحواس للإصغاء والدَّهشة والتأمُّل، ومشرعًا آفاق الجمال، جمالٌ مُترعٌ بالجلال ومُتوَّج بقداسة المَصْدَر، ومحفوفًا بهمس المستمعين يردِّدون النداء، وقد استيقظت في دواخلهم مكامن الاستشعار، وانطفأت كلُّ رغبة دنيوية في عالَم الشهادة، وانشدَّت الأفئدة والأرواح إلى أنوار عالَم الغيب واليقين، وتوهَّج التَّوق إلى بلوغ المَصْدَر، حيث نور النبوة ورياض الإيمان ومَعِين الأمان، وتوحَّدت الحواس لتكون سمْعًا متَّصلًا بالروح، تلتقط شفاهها جُمل الأذان حرفًا حرفًا وكلمة كلمة ونبرة نبرة؛ تكبيرٌ وشهادتان، وصلاحٌ وفلاحٌ، فختام بالتكبير، تُفتتح فيه أفياء (الحالة) ونفحاتها العامرة بجلال لا يفتر، وجمال لا يتكرَّر.