مقهى الحياة

حينما تستمع لـ «ياس خضر» منتصف الليل ينتابك خيال وكأنك عجوز عراقي يجلس في مقهى على طاولة في أرصفة بغداد وتلعب النرد مع عجوز عاطل مثلك. تتذوق كلماته وأنت تكتب كلمات لن يقرأها أحد. وكأنك تتذوق كوب شاي على أنغام ياس خضر في الراديو. أولئك الأشخاص الذين هزمتهم الحياة مرارا فأرادوا أن يجربوا طعم الانتصار على أنفسهم. كهلوا على حمل السلاح ومعارك الحرب فجعلوا أنفسهم قادة ومخططين ومحاربين على طاولة مقهى. وكل نرد يتدحرج فوق الطاولة يحمل معه ماضياً من الأحلام التي لم تكتمل، وخيبات تتزاحم كدخان الأرجيلة التي ينفثها العجوزان في الهواء. يضحكان حين يربح أحدهما، ليس فرحاً بالنصر، بل شماتة بصديقه الذي كان واثقاً من ضربة حظه. ثم يعاودان اللعب وكأنما يعيدان ترتيب أقدارهم، مرة أخرى. في الخلفية، صوت ياس خضر يملأ المكان بيأس وشجنٍ لا يليق إلا بالمهزومين الأنيقين الذين لبسوا حزنهم باناقة، أولئك الذين هزموا في كل شيء إلا في قدرتهم على الضحك وسط الخراب. وكأنها طلقات أرواحهم بوجه الحياة يدافعون بها عن شرف الحرية. يرتشف أحدهما شايه ببطء، يحدق في النرد المتناثر أمامه كأنما يقرأ طالع الأيام القادمة، ثم يرفع رأسه نحو صديقه بابتسامة نصف مهزومة، نصف ساخرة: تدري؟ الحياة مثل هاي اللعبة… «مرات تفكر إن الحظ وياك، وتالي ينقلب عليك النرد بغمضة عين». يرد الآخر وهو يشعل سيجارته بعناية، كمن يشعل فتيل ذكرى لا يريد لها أن تخمد: «إحنا ما عدنا غير هالمقهى، وهالطاولة، وهالنرد. نتصور إن عدنا قرار، بس الحقيقة… اللعبة تحكمنا». ضحكاتهم بين دواخن الأرجيلة التي تملأ المكان جعل فكرة سطر تمر في المخيلة كأنها فرحة من وجد جنديا لازال فيه نبض للحياة بين كومة من جثث القتلى، ضحك لا يحمل نصرًا، بل دهشة الباقي بعد المعركة. يميل الأول إلى طاولته، يطرق بأصابعه عليها بخفة، كأنه يحيي صدى طلقات سمعها ذات يوم في ساحات لم تعد تذكر أسماء مقاتليها: أتدري يا صاحبي؟ نحن لم نترك الحرب. نحن أخذناها معنا، خبأناها في قعر صدورنا، في نرد الطاولة، في فناجين الشاي، في كل نفس من هذه الأرجيلة… نحن جنود فقدوا ميدانهم، فصار المقهى هو المعركة، والطاولة هي الخريطة، والنرد… هو رصاصة القدر الأخيرة. يرد الآخر وهو يمد يده ليمسك بكأس الشاي، فيحتسي رشفة طويلة، ثم يضع الكأس بهدوء، وكأنه يعلن هدنة مؤقتة، أو يتبنى حكمة لم يقتنع بها: ولكننا على الأقل… لم نمت بعد. يظن انها بقايا فرصة ولم يتحسس لقول أحدهم إن الحياة اشد ألما من الموت. في لحظة يراقبان فيها تصاعد الدخان من أرجيلتيهما، كأنهما يراقبان عمرهما وهو يتلاشى في الهواء، ثم يلتفتان نحو النرد المستقر على الطاولة، ينظران إلى الأرقام التي ظهرت وكأنهما يقرآن رسالة قدرية. في الخلفية، يستمر ياس خضر في الغناء، بصوته الذي يشبه بكاء بغداد العتيقة، بغداد التي تعرف أن الخسارة ليست دائمًا نهاية… لكنها قد تكون شكلًا آخر للبقاء. الغناء الذي يشبه اسمه، الذي يشبه المرور بأرشيف كتاباتهم المدفونة على الأرفف. ضحك وهو ينظر إلى الطاولة المجاورة التي عليها رقعة شطرنج وقال: الشطرنجيين أكثر منا بؤسا، قافية رقعتهم لم تعد تستهوي الملوك. بعد ضحكة صاخبة بدأ يتلاشى صوت ضحكاتهما شيئًا فشيئًا، كأنما يعيدهما النرد إلى صمتهما الأول، ذلك الصمت الذي لا يخلو من حديثٍ داخلي لا ينتهي، والذي يثبت أن ضحكتهما كانت مجرد هرب من هذا الصمت الصاخب. يراقبان الدخان وهو يتراقص في علو ويتبنيا تكملة خيالهم السابق وكأنهما يراقبان أرواحهما وهي تتصاعد معه، كأنهما يختبران شعور التلاشي دون أن يختفيا حقًا. يأخذ الأول نفسًا عميقًا من أرجيلته، يزفره ببطء ثم يقول بصوت مبحوح: يا صاحبي، لو عاد بنا الزمن، هل كنا سنسلك طريقًا آخر، هل كنا سنحمل غير أسلحتنا التي في جيوبنا؟ يرد الثاني: ومن قال إن لنا طرقًا أخرى؟ نحن كنا مجرد جنود في كتيبة الأمل، أمرنا بالمضي فمضينا، أمرنا بالتوقف فتوقفنا. نحن لم نختر شيئًا يا صاحبي… حتى هذه الطاولة، حتى هذا النرد، حتى ضحكاتنا، كل هذا ليس اختيارًا… إنه بقايا ما سُمح لنا أن نأخذه من الحياة. تسقط جملة الأخير كحجر في بئرٍعميق، يبتلعها بصمت، ولا يبقى سوى صوت المذياع يردد كلمات ياس خضر، وكأنها رسالة أخيرة لمن أضاع الطريق: تايهين… تايهين… تايهين… رفع الأول كأسه، يتأمله للحظة، يستذكر طعم المرارة في رشفته الأخيرة للحياة، ثم يبتسم نصف ابتسامة ويقول: إذا كنا تائهين… وليس سوى التيه الذي يمكننا أن نكمله، فلنُكمل تيهنا حتى النهاية. يرمي بالنرد من جديد، يتدحرجان فوق الطاولة، وحين يستقران، ينظران إلى الأرقام كمن ينظر إلى مصيرٍ جديد، مجهولٍ، لكنه على الأقل… لم يُكتب بعد. يتلاشى الدخان في فضاء المقهى، مثل أفكارٍ لم تجد لها موطئ قدم في الواقع، مثل حكاياتٍ لم يكتب لها أن تُروى. ينظر الأول إلى النرد المستقر على الطاولة، ثم يغمغم بصوت خافت، كأنه يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب صديقه: نحن نبحث عن السلام من فوهة قلم، كما يبحث الجنود عن الحياة من فوهة بندقية. يرفع الآخر حاجبه، يتأمل كلمات صاحبه وكأنه يقلبها في عقله، ثم يبتسم بسخرية: والفرق يا صاحبي، أن الجنود يعرفون أنهم يقتلون، أما نحن، فنظل نظن أننا ندافع عنهم، حتى نكتشف متأخرين أننا لم نترك إلا آثار جراح على الورق. تصمت الطاولة للحظة، وكأنها تأخذ نفسًا عميقًا من الحياة قبل أن يقطع الهدوء صوت المذياع، حيث لا يزال ياس خضر يتعمد أن يحزنهم: «وين الي يشفي الروح، وين الي يطفيلي النار....» يرمي الأول بآخر رشفة من شايه في جوفه، ينهض ببطء، كمن يحمل سنوات عمره على ظهره، ينظر إلى صديقه نظرة طويلة كأنه يعد الشيب في رأسه، ثم يقول وهو يلوّح للقهوجي: سنأتي غدًا… ربما نجد نصرًا صغيرًا في هذه الطاولة. يضحك الآخر، ويربت على كتفه، ويرد بنبرة واثقة: أو ربما نكتب أملا جديدا… لكن هذه المرة، من فوهة القلم. ثم يغادران المقهى، يتركان خلفهما كأسين فارغين، ونردًا متوقفًا عند رقم لا يجرؤ أحد على قراءته. عاد الى منزله وكتب مقالته التي ذيلها بقوله: إن كنت تظن بأنني أتحدث عن المقهى حقيقةً فأعد القراءة مرة أخرى.