قراءة في قصيدتي (سفر الأنا) و(رفقاً يا أوراق التوت) للشاعر عبد العزيز خوجة..
فلسفةٌ شعريّة لاتنقطع أواصرها مع إشراقات الروح و صفاء النفس.

يستوقفنا معنى السِفر ودلالاته في هذه القصيدة وما تلاها من الأسفار في ديوان الشاعر (أسفار الرؤيا) فدلالات السِّفر في الفكر والثقافة تشير إلى رمز العلم والمعرفة؛ فالسِّفر غالبًا ما يرتبط بالعلماء، والموروث الفكري، والمصادر المرجعية التي توثّق التاريخ والمعرفة دلالة على الخلود والبقاء لأن الكتب تبقى بعد رحيل مؤلفيها، يُنظر إلى السِّفر على أنه وسيلة لحفظ الذكر والخلود في الذاكرة الإنسانية و رمز للهوية الثقافية ؛ فكل حضارة تُعرَف بأسفارها ومؤلفاتها، مثل: سفر الأغاني، أسفار الحكماء، إلخ دلالة على التوثيق والشهادة و يستخدم السِّفر لتوثيق الأحداث أو الأفكار أو المبادئ، ولهذا فهو يعد شاهدًا تاريخيًاً وفكريًاً ورمزا للوضوح والبوح والإشراق (أسفر الصبح) وهذه المعاني جميعها واردة في ديوان الشاعر وفي هذه القصيدة. وفي هذا النص إبحارٌ في عمق الذات وارتحالٌ إلى أعماقها وصولاً إلى جوهرها الإنساني حيث تتحد الذات المفردة والذات الجمعيّة متجذّرةً في أصولها ومعبّرة عن كلّية النوع البشري وكينونته الوجوديّة و الإنسانيّة ، فهي تتقاطع معه معلقة في تشكيلها للنموذج في زمانه ومكانه وبرامج عيشه؛ و لكنها تتجاوز هذا اللون من ألوان القصيد لتعانق أفق الملحمة في سرديّتها لدراما الحياة ومكابدات الذات وتوقها الأزلي لمعانقة حقائق وجوده في أبعادها الروحيّة على وجه الخصوص ، وقد تبدّى ذلك منذ الإطلالة الأولى على اللوحة الشعريّة المكتوبة في نسق متعدّد التجلّيات ومتفاوت الأبعاد والأشكال،في دلالات لا تخطئها البصيرة التي تتشكّل عبر معطيات البصر منسابةً متدفقة كالنهر في جريانه لا يكفّ عن التشكّل و التحوّل ، خطاب للذات أمراً و نهياً وهمساً وجهراً وبوْحاً وإسراراً وإعلاناً وتعليلاً وتسويغاً وذكراً للأدلة و الأسباب و العلل والدوافع وتنبّؤاً بالمآلات و المصائر واستكشافاَ للأعماق، محاولة للانفلات من قيود الذات وأوهامها وهربا من تبعات تطلعاتها وشهواتها و مكابداتها وزهوها و نرجسيتها: لا تعطني يدك المنى وعدا يقيدني بأغلال من الماضي وأغلال من الآتي وحبل من مسد مجاهدة للتخلص من شطرهاالآخر ،صراع بين قبضة الطين ونفخة السماء ، سلسلة من الأوامر تدعو إلى الخلاص ، تحرّر من قيود الرغبات و التطلّعات و الأمنيات و الأوهام لتّحقُّق من صفاء الروح، وعزوف عن القشور إلى اللباب “ أما خباياي / فتكفيني/ وفيها العالم السحري و العلوي و السفلي/ والأزلي و الأبدي/ والرؤيا على طول الأمد / لا لست قديسا / ولا إبليس ضللني بألغاز الأبد” فالحوار ضمنيّ والخطاب صريح يرمي إلى الخلاص من قبضة الأنا ؛ والعلل لاتجنح إلى منطق الحِجاج الفَج بل تتّسق مع جماليات الشعر وتتشكّل فيها فتّية الصورة عبر تكثيف المجاز وتمثيل الفكرة في علاقات تنبو عن الحسّية الخشنة ، وتمضي إلى بنائها في لوحة تتمازج فيها الحسّيات مع المعنويات فتفضي إلى دلالات تلامس العقل والوجدان ، ففي قوله “ لا تعطني وعداً يدك اليمنى (المعنى هنا حسي) يتحدث عن أغلال الماضي، وحبل من مسد وعن الوهم ( وهو عطاء معنوي) ثم يقول مستثمراً لام التعليل (لأعطي من بقايا الزهر نرجسة أعلقها على أعطاف حلم من خبايا العمر) يوغل في البعد التخييلي المعنوي ؛ ويمضي على هذا النحو في تشكيل الصورة الفنّية في نهج تحديثيٍّ دون أن يقع في دائرة التلغيز و التغميض فيطفيء الوهج الجمالي ويصادر المعنى ، ويستثمر إيقاع تفعيلة هادئة باعثة على التأمّل ؛ أما القوافي فهي تتراوح بين الالتزام و التحرّر والسكون في الغالب وهوأدعى إلى التأمل والتبصّر ‘ فحرف (الدال) في الجزء الأول من القصيدة، وهو من الحروف الصامتة صوت مجهور وهو من حروف المباني في الكلم العربي، فكان موقعه هنا يتناسب مع جِدِّية الموقف وصراحة البوح والاعتراف وكذلك اللام ، وهذا التنوّع في حروف الروي يوميء إلى عمق الرؤيا والتأمل. وتكرار حرف النداء مشفوعاً بضمير المتكلم المجرد (أنا) تعرِية للذات وتصريح بما في الأعماق بلا مواربة ، و مكاشفة وبوح صريح يتقرّى الأسرار و يستعلن على الملأ، ويتتبّع تضاريس الأنا الشاعرة في خصيصتها الإبداعيّة بلا مواربة في استكشافها واختراقها للحجب (أجلو طلاسمه) فثمة اعتراف بكنه الذات (قلبي المركب من شياطين و ماء) وهو اختراق لذاتيّة الأنا وصولاً إلى جوهر الذات الجمعية و غوْصٌ إلى أعماق الطبيعة البشرية (طين الأرض و روح السماء) إني أنا هذا الكيان قد جاء من رحم الزمان قلبي المركب من شياطين وطين وعجينة ممزوجة بالنور و اللهب المذاب كيف التوازن في معادلة الحساب؟ وتنثال الاعترافات في تداعياتها المنهمرة المُسْتلّة من التحديق في الأعماق لتصل إل قرارة الكينونة الإنسانية في أقصى درجات الصفاء المقطّرة في شعريّة ناصعة لايأتيها الزيف من بين صريح كلماتها ولا من خافي نواياها ، غوْصٌ بعيد في الزمان بحثاً عن حقيقة الوجود ومعنى الحياة واستشعار لبراءة الإنسان وخطيئته منذ الأزل ، وتتعالق سيرة الذات المفردة مع السيرة الكونية لبني البشر : وصايا الأب المحفورة عل جدران القلب (في الأزل) وتلاوة الأم للسّور القصار و فاتحة الكتاب . و لا أريد أن أختزل هذه الملحمة الكونية الإنسانية في ملاحظات عابرة يفرضها الحيّز المتاح و المساحة المحدودة؛ فالشاعر يتجاوزها إل سبر الأغوار و التقاط المحار و الغوص في قرارة الإنسان ؛ فهو حين يقرأ صحيفة الذات إنما ينفذ إل أعمق الأعماق فيقرأ صحيفة بني الإنسان منذ أن تشكّل من طين الأرض إلى أن عانق عنان السماء ، فهو يتوحّد ويفنى في الأشياء و الكائنات : الربان والسفن و الميناء و المدن و العبّاد و الهوى و المال و الشهوات و الولد المدلل و المنى و القرطاس و القلم و الأصلي و الفرعي و المجنون و المعشوقة المثلى، يمضي كما يمضي الشعاب ويهمي كما يهمي السحاب ، قد ضيّع المجداف) ويمضي على هذا النحو يستقصي ويتقرّى تضاريس كينونة الإنسان ومعالم وجوده إلى أن يعانق المآل والمصير : ماضٍ إلى أبديتي روح تماهت في المدى جرح تناثر في الشفق ولئن صمت عن الهوى فلقد حرقت بأنّتي كوناً بآهاتي نطق وعلى هذا النحو يمضي في قصيدته ( رفقا يا أوراق التوت) حيث المكاشفة الشعريّة في عمقها وصدق البوح فيها على النحو الذي لاحظته في سفر (الأنا) التي تتكثّف فيها الرؤيا لخطيئة بني الإنسان والخطاب لأوراق التوت رمز الستر والتغطية على الخطيئة ، حيث القصيدة اعتراف بالخطايا التي يتقمّصها الشاعر في استقصاء ، تتوارد فيه الخواطر في شكل اعترافات تتشكّل في سلسلة من االشواهد على السقوط والقنوط ،و تتجلّى في كثافة شعريّتها (هويّتها الجمالية) صورها التي تتابعت حول العُري متوسِّلةً بالتناصّ مع قصة آدم (عليه السلام) حيث طفقت تخصف عليه من ورق الجنة حين تكشّفت خطيئته التي ورثها بنوه ، وها هو الشاعر يرى أن ورق التين لم يعد قادراً على ستر خطايا البشر فيناشده الرفق حتى لا تنكشف الخطايا و يفتضح الأمر ، استلهام للنص القرآني الذي اختزل الخطيئة الأزليّة لبني البشر الموروثة منذ أن خلق الله آدم (عليه السلام) ، هذه الأمثولة الرمزيّة الراسخة التي تجسّد السقوط القارّ في أصل البشرية مذ وجدت على سطح الأرص،و تمثّلٌ رمزيٌّ للنور والظلمة ، وثنائية الهدي و الضلال التي رافقت مسيرة الإنسان ،ثم الاستقامة و التعثّر التي عكست علاقة البشر مع عالمهم الأرضي مصداقاً للثنائيّات السابقة. اليأس و الأمل ، الارتطام بالطريق ٨المسدود والإفاقة من غيبوبة الروح، توصيفٌ و تمثيلٌ وحراكٌ متسلسل مترابط متصاعد ،مشدودٌ إلى أصل الوجود وظواهر الكون. محطةٌ توقفت عندها كل الأواصر التي تربطها بحبل النجاة من الضلال ،إنها تجربة الإنسان المعاصر تقمّصتها الذاتُ الشاعرة في عمقٍ وشمولٍ لتصل في نهاية المطاف إلى تقرير حقيقة الحقائق و لُب اللُّباب (الزيف) ثم تأتي الخاتمة صادمةً ساطعة في صورةٍ كاشفة وامضة لا مراء فيها، وهي القناع الذي لخّص الداء و وضع يده على حقيقته المتجذّرة في مشهد مثير (حدّق في عيني قناع) في أعمق قاع القاع . فلسفةٌ شعريّة لاتنقطع أواصرها مع إشراقات الروح و صفاء النفس