ميناء حلي بمحافظة القنفدة وعودة الحياة إليه.

يجئ هذا المقال مكملًا ومتممًا لما كنت قد نشرته في عدد سابق من مجلة اليمامة الغراء حول جزيرة جبل الصبايا المواجهة من البحر الأحمر لوادي حلي بمحافظة القنفدة, وإعادة الحياة إليها؛ ولكون ميناء حلي التاريخي هو أقصر الطرق البحرية الموصلة إليها من البَرَّ المواجه لها من الشرق, وارتباط التاريخي الجزيرة بمينائها ارتباطًا وثيقًا وأزليًّا؛ ولكون إعادة إحياء هذا الميناء في الوقت الحاضر تسير بخطى متسارعة خدمة للجزيرة, وتسهيلًا لوصول المنتجعين إليها عن طريق البحر, فإن من المستحسن إعطاء القارئ الكريم فكرة عن ذلك الميناء التاريخي, وأهمية المحافظة على اسمه كما ورد في المصادر التاريخية التي أشارت إلى وجوده منذ أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي, وإن كانت لم تشر إلى أهميته التجارية حينذاك, وإلى دوره في الملاحة البحرية في زمانه. ويبدو أن الوضع استمر على تلك الحالة نتيجة لشحّ المصادر طوال القرنين الرابع والخامس الهجريين/ العاشر والحادي عشر للميلاد، إلى أن جاء الإدريسي في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي, فألقى الضوء على ميناء حلي, وعلى بعض أوجه نشاطه، حينما يقول: “ وهي فرضة من جاء من أرض اليمن, وفرضة لمن صعد من القلزم”(1). ويبدو أن ميناء حلي بقي عامرًا طوال الفترة التي تلت عصر الإدريسي, لأنه يُفهم من كلام ابن بطوطة, ومن إشارات مؤرخي مكة واليمن, أن مرسى حلي كان معروفًا ونشطًا في القرنين الثامن والتاسع الهجريين/ الرابع عشر والخامس عشر للميلاد(2) . فهل اختفى ميناء حلي بعد هذين القرنين أم أنه كُتب له البقاء في المدة التي تلتهما؟ ويسود الاعتقاد بأن ميناء حلي استمر في بقائه ونشاطه زمنًا طويلًا بعد المدة المشار إليها، بل لعله كان مستخدمًا بوصفه ميناءً تجاريًّا دوليًّا في البحر الأحمر تقصده السفن التجارية من اليمن ومصر والسودان والحبشة وما والاها جنوبًا حتى القرن الهجري الماضي, حيث تعرّض فليبي لذكره في أثناء زيارته للمنطقة في سنة ١٣٥٥هـ/ ١٩٣٧م، ووصفه بأنه ميناء أو مرسى حلي, وأن مسؤوليّة هذا الميناء كانت مناطة بالشيخ إبراهيم الكناني، شيخ قبيلة كنانة في زمانه, وجدّ شيخها المشهور عبد الرحمن بن عيسَى الكناني (رحمه الله) (3), والد شيخ كنانة الحالي مطلق بن عبدالرحمن الكناني. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: أين يقع هذا المرسى من ساحل وادي حلي المعروف؟ إذ لا تملك المصادر الميسورة أي إجابة واضحة على هذا السؤال, خصوصًا تلك المبكرة منها, إلا أن فيلبي الذي سبقت الإشارة إلى زيارته لهذه المنطقة, يذكر أن مرسى حلي هو: عَازِب zib، وأنه يقع إلى الغرب من بلدة مخشوش - مقرّ مشيخة الكناني ومركز الإمارة الحالي المعروف باسم: مركز كنانة - بحوالي ثلاثة أميال(4). غير أن المعلومات المستقاة من بعض السكان المحليين تفيد بأن اسم عازب هذا لا وجود له في ساحل حلي, أما موقع الميناء في تلك المدة فكان يُطلق عليه ‌“أبومسعود‌“، وحتى ميناء أبي مسعود هذا، لم يكن هو ميناء حلي القديم, وإنما هو ميناء حديث النشأة - ربما بعد زيارة فيلبي - وإنه اُستخدم من قبل الصيادين, ورجال خفر السواحل (حرس الحدود) عندما تعذّر الرسو في الميناء القديم بسبب ردم السيول له، كما سيأتي . ثم اُستبدل بأبي مسعود مرسى آخر هو الكُدُوْف. وهو يقع إلى الشمال من الميناء القديم بحوالي أربعة كيلومترات, وبه مبنى مركز لخفر السواحل أو حرس الحدود. ولم يكن لمرسى الكُدُوْف هذا أهمية تذكر في زمن مضى، وليس له رصيف واضح لرسو السفن, وإنما يُستخدم الشاطيء المقابل لمركز خفر السواحل, في الوقت الحاضر، لرسو الزوارق الصغيرة التي تمتلكها إدارة المركز، وما شابهها من تلك الزوارق التي تعود ملكيتها إلى صيادي الأسماك في المناطق المجاورة . أما ميناء حلي القديم, فيسود الاعتقاد بين السكان المحليين أنه كان في الموقع المعروف - حتى اليوم - باسم الرُّدَيْنِي، وهو إلى الغرب من بلدة مخشوش سابقة الذكر بحوالي خمسة كيلومترات, وهي نفس المسافة تقريبًا التي يذكرها فيلبي عند إشارته إلى ميناء حلي في الموقع المسمى: عازب. فماذا يُقْصَد بكلمة الرُّدَيْنيِ هذه؟ وهل هي اسم لشخص أم للمكان؟ ولا ريب أن هذه الكلمة جاءت من اسم شخص, مات ودفن في هذا الموقع الذي نُسب إليه فيما بعد، وأصبح شهرة على المكان كما سيأتي. أما الاسم الأصلي للمكان الذي اختفى من ذاكرة الناس وحلّ محلّه اسم: الرديني, فقد حفظته بعض المصادر التاريخية. ومنها، على سبيل المثا‌ل, طبقات الخواص, للشَّرْجِي الذي يذكر بأن الشيخ الرُّدَيْنِي توفي وهو قافل من الحج في سنة ٨٢٧ / 1423، “ ودفن بساحل البحر من ناحية حلي بقرية يقال لها: عازب، وقبره هناك مشهور... وعليه مشهد عظيم‌“, كما يزعم المؤرخ الشرجي(5). ويورد ابن الأهدل أيضا ترجمة ضافية للشيخ الرُّدَيْنِي, يذكر فيها أنه توفي ودفن في عازب في السنة المذكورة, وأن قبره مشهور في هذا الموقع(6). ومن هنا يتضح أن اسم ميناء حلي في العصور الإسلامية هو عازب، وليس الرُّدِيْنِي، وأنه كان معروفًا قبل وفاة الشيخ المذكور، ولعل هذا الاسم ‌“عازب” بقي معروفًا حتى قدوم فيلبي إلى حلي في سنة 1355هـ/1936م, ولا نعرف شيئًا عن ميناء حلي بعد تاريخ تلك الزيارة, ولعله انتهى دوره التجاري بسبب التحول إلى ميناء القنفدة الذي كان – حينذاك – في قمة ازدهاره, واختفى اسمه تبعًا لذلك. وحينما انتهى دور عَازِب بوصفه ميناءً بقي الضريح في مكانه الذي كان في زمن مضى من المزارات المشهورة هناك(7)، وأحد المعالم البارزة في موقع الميناء, ثم لم يلبث مع الزمن أن تغلّب اسم صاحب الضريح الشيخ الرديني على المكان نفسه, واختفى اسمه الحقيقي وهو: عازب من الذاكرة, بحيث لا يُعرف في الوقت الحاضر إلا باسم الرُّدَيْنِي. وهذا الموقع في ديار قبيلة كنانة, وهو مهجور تمامًا منذ وقت ليس بالبعيد، ولم يبق منه إلا أساسات ضريح الشيخ الرديني بعد إزالة ما يُعتقد بوجود بناء عليه, وجزء من المقبرة التي تقع في شمال شرق الضريح, إضافة إلى جزء من الحيّ السكني الذي يمتد إل الجنوب من الضريح . وقد تأثر الموقع بكامل أجزائه من جراء السيول؛ لأن وجوده في فوّهة وادي حلي جعله عرضة للجوارف أي السيول الجارفة؛ فالمقبرة, على سبيل المثال, لم يبق منها إلا لحود تكاد تكون مكشوفة في أثناء زيارتي للموقع قبل 40 سنة، والحيّ السكنيّ لم يعد يُرى منه إلا بقعة صغيرة تمتد جنوب الضريح بمساحة تقدر بحوالي 105X25 مترا . وهي مغطاة بمخلفات البناء والأصداف، وكسر الفخار، والزجاج والخزف. وقد عُثِر في هذه البقعة على ثلاث قطع نقدية، اثنتان منها من البرونز، والثالثة من النحاس : وجميعها مغطاة بطبقة كثيفة من الصدأ. وقد تم تنظيفها في معمل قسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود بالرياض، لمعرفة ما إذا كانت تحمل كتابات تدل على فترات سكَّها, ولكن مع الأسف تبين أن الكتابات التي تحملها قد تآكلت وامّحَتْ بفعل الصدأ. وتزن هذه العملات الثلاث, بعد تنظيفها، على التوالي، 1,45 و 2,25 و2,51 غرامًا(8) وتقع منطقة الضريح على ربوة طينيّة, وهي تقريبا على شكل مثلث، قاعدته حوالى ٢٥ مترا، وطول ضلعيه مثل ذلك. ويبدو أن وجوده على هذه الربوة ساعد على حمايته من جَرْف السيول, ولكنها, رغم ذلك, لم تحمه من عوامل السقوط والتهدّم والإزالة, فلم تبق منه إلا أساسات جدرانه التي تشكّل مربعًا مساحته التقريبية حوالي ٤٠ مترًا مربعًا, وبعض مخلفات البناء الذي استخدم فيه الطوب الأحمر جنبًا إلى جنب مع الصخور التي قُدَّت من الشعاب المرجانية(9) . يوجد القبر في نصف الضريح الجنوبي، وهو يُنسب إلى الشيخ الرديني, وهو من علماء اليمن كما أسلفنا, واسمه أبو العباس أحمد بن محمد الرديني الشريف السّنِّي, يصفه الشَّرْجِي بأنه “ كان شيخًا جليل القدر، مشهور الذكر، اشتغل في بدايته بالعلم، وحصّل منه طرفًا صالحًا, وجمع كتبًا كثيرة. وكان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر متنزهًا عن الأخذ من أيدي الناس، لا يأكل إلا مما يزرعه”(10). ويذكر ابن الأهدل أن خروج الشيخ أحمد الرديني في أول شبابه, كان من نواحي حَرَض، شمال اليمن، وأنه اشتغل بالعلم، وصحب أناسًا كثيرين, ثم بنى زاوية عُرفت باسم الرَّغَد - بفتح الراء والغين المعجمة - وحج في أواخر سنة ٨٢٦هـ/ ١٤٢٢م- 1423م، وعند عودته تُوفي في مدينة عازب المذكورة في مطلع السنة التالية(11). وتشكل أساسات ضريح الشيخ المذكور أحد المعالم البارزة في الموقع المشار إليه. وتقع إلى الشمال الشرقي من الرديني بحوالي ١,5 كم مقبرة قديمة تُعرف باسم “مقبرة بني هلال”. وهي تسمية تدلّ على قدم هذه المقبرة, لأن سكان تهامة، بصورة عامة، ينسبون إلى بني هلال, القبيلة العربية المشهورة, كل قديم مهجور من آبار وخرائب ومقابر ونحوها(12). وهذه المقبرة ليست كبيرة، إذ لا تزيد مساحتها التقريبية عن 1200متر مربع, ولا تزال قبورها واضحة المعالم, وشواهدها التي جُلِبَت من الشعاب المرجانية, قائمة، ولم تتأثر بالرياح القوية التي تهبّ على المنطقة. ولكن نظرًا لأن هذا النوع من الشواهد لا تصلح عليه الكتابة بسبب خشونة بلاطاتها, فلم يُعثر في هذه المقبرة على أي كتابات إسلامية تدل على أسماء المتوفين, أو تواريخ وفياتهم. ويُعتقد بأن هذه المقبرة كانت تابعة لموقع الرديني أو عازب، لعدم وجود مكان سكني بالقرب منها, ولأن المسافة بين موقع الرديني وهذه المقبرة ليست كبيرة جدًا, بل هي مسافة طبيعية بالنسبة لمواقع المقابر من الأحياء السكنية في كثير من المواقع التهامية حتى في العصر الحاضر. وربما اُختيرت هذه المقبرة في هذا المكان من قبل طائفة من سكان عازب أو الرديني فيما بعد, لكي يدفنوا موتاهم في مكان يبعد عن مجرى وادي حلي الذي يشكل تهديدًا لموقع الرديني أو عازب من الشمال . وما من شك أن موقع هذه المقبرة خارج مجرى الوادي من الشمال, يجعلها بمنأى عن تهديد السيول التي تجري بغزارة في وادي حلي, مما يجعل مواسمه الزراعية تمتد على معظم فصول السنة(13). وهكذا نلحظ أن غلبة اسم الرديني على هذا المكان ليس لكونه اسمًا للميناء, وإنما لاسم الشخص المدفون في هذه البقعة من شاطئ البحر المسماة: عازب, والتي كانت في زمن مضى ميناءً لحلي حينما مات ودفن فيها شخص الرديني غريبًا, وهو عائد من الحج في طريقه إلى بلده كما قدّمنا. ولا يبدو للناظر أن هذا المكان صالح لإعادة تهيئته ليكون ميناءً لحلي في الوقت الحاضر, وأن التوجّه نحو إنشاء الميناء سيكون في موقع الكُدُوْف – كما علمت –, وهو موقع مناسب حقًا, والوصول إليه سهل وميسور, وقريب من مَصَبّ وادي يبة بمركز القَوْز. وفي كل الأحوال, فمن المستحسن في نظري أن يُطلق على هذا الميناء الجديد أيًّا كان موقعه اسم: عازب, حفاظًا على الموروث التاريخي, خصوصًا وأن المسافة بين الكدوف وموقع عازب لا تزيد على أربعة كيلومترات – كما قدمنا – وأنهما على سمت واحد, وكلاهما يتبعان مركز كنانة سابق الذكر . الإحالات (1)- انظر: إبراهيم شوكة, “جزيرة العرب من كتاب: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي”، مجلة المجمع العراقي, بغداد 1971, عدد 21, ص 19. (2)- تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار, بيروت: دار بيروت, 1400هـ/1980م, ص 247؛ اليافعي، مرآة الجنان، جـ ٤, ص ٣١٨؛ الفاسي، العقد الثمين، جـ ٣، ص ٣٩٦؛ ابن الأهدل, علماء اليمن، مخطوط، ورقة ٤ ب؛ العصامي، سمط النجوم العوالي، القاهرة: المطبعة السلفية, د.ت. جـ ٤، ص ٢39. ويذكر بوركهاردت أن حلي كان ميناءاً صغيرًا في سنة ١٨١٩م. انظر: Travels in Arabia , P.453. (3)-Arabian Highlands, P.686. (4)- Arabian Highlands, P.686. (5)- الشرجي, طبقات الخواص, القاهرة, المطبعة الميمنية, 1421هـ, صفحة 28. ذلك كان في زمن الشرجي ومعاصريه أما اليوم فسويّ بالأرض لكونه من الممارسات البدعية الباطلة. (6)- علماء اليمن, مخطوط، ورقة 34 ب. (7)- الشرجي, طبقات الخواص، ص ٢٨ . (8)- انظر: اللوحة رقم (4) . (9)- انظر: الشكل رقم (4)؛ اللوحة رقم (5). (10)- طبقات الخواص، ص ٢٨ . (11)- علماء اليمن, مخطوط، ورقة 34 ب . (12)- AI-Zayla , «The Southern Area», phd, Durham, 1983, P.180 . (13)- K. AbdulFattah, Mountain Farmer and fallah, P.48.