
فلسطين هو اسم لرواية. بقيت تستفزني لكي أكتب عنها، وكنت أتحاشى ذلك، المؤلف روائي وشاعر وفنان تشكيلي فرنسي من أصل أمازيغي، وقد ولد في تونس، فاز الكاتب بمجموعة من الجوائز، منها جائزة رينودو بوش عن هذه الرواية، وقد ترجمها المصطفى صباني ترجمة متقنة، وراجعها الكاتب المصري جمال كريم. مشكلتي في تقديمها قائمة في أنها من الروايات القليلة التي لا يمكن تقديمها دون ذكر أحداثها. الحدث المسلسل الأصلي هو إقامة الكيان الصهيوني على ارض يملكها آخرون، وما يمارسه المشروع، التوقع والتفسير، ولكنها في السياق الفلسطيني أحداث طبيعية رغم كارثيتها. الحيلة الفنية تقوم على تبديل موقع الصهيوني ليكون عربيا …كيف؟ شام اسم مجند في جيش الصهاينة، واضح أنه يعرف العربية إلى جانب العبرية، ويؤدي خدمته على خط التماس في الضفة الغربية، حيث خلقت الحواجز الاسرائيلية جزرا عربية منعزلة يحتاج تجاوز أحدهما إلى الأخرى الكثير من العنت عبر محطات العبور الصهيونية التي يفرض من خلالها العدو قدرا هائلا من الاستلاب الإنساني على السكان، خاصة الذين يريدون أن ينتقلوا إلى مدارسهم وقراهم وأقاربهم. ترسم الرواية لوحة كثيفة التعبير واضحة عن معالم جغرافية مستجدة حولت الأرض إلى قطعة من الجحيم، جحيم يلاحق القارئ، يحرق أجزاء من جسده ومشاعره. حصل شام على إجازة من عمله، خرج من معسكره ليتلقى أخاه الفنان الذي دمر روحَه الشفيفة ما يراه من إذلال قومه الصهاينة للفلسطينيين، أصبح على شفا الانتحار. اكتشف شام أنه قد فقد أوراقه الثبوتية، عاد أدراجه إلى المعسكر، كان صديقه في نوبة الحراسة فدعاه لمرافقته في جولة حول السياج المحيط بالمعسكر، وسرعان ما وقعا في كمين لفدائيين فلسطينيين كانوا يحاولون اختطاف جندي اسرائيلي ليبادلوا به مجموعة من الأسرى الفلسطينيين الذين يًعتقلون على الحواجز يوميا، اعتقالات إدارية لا توجه فيها تهمة في العادة، لكن ذلك قد يؤدي إلى قضائهم سنوات في السجن، وفي المعتقل آخرون يقضون أحكاما طويلة لانهم مارسوا فعل المقاومة، يتطاول الدهر عليهم في سجنهم، لا مخرج لهم إلا في عملية تبادل كهذه. يتم أسر شام ويقتل رفيقه، يجرح أحد الفدائيين جرحا مميتا، يقضي أفراد المجموعة الثلاثة يومين يمرضون شام ويعتنون برفيقهم المحتضر، ويدفنونه عندما يموت. وحيث إنهم كانوا يتابعون ردود الفعل الاسرائيلية فانهم يلاحظون إعلانا عن القتيل، ولكن ليس هناك ما يدل على أن السلطات الصهيونية تعرف عن أسير آخر في أيدي الفدائيين. أسقط في أيدي أفراد المجموعة، فقد خسروا زميلا، وأسيرهم طالما أنه غير معرف للسلطات الصهيونية لا قيمة له في أي صفقة للتبادل، المجند الصهيوني عند دولته مجرد أوراق ثبوتية وأداة إجرام، الفدائيون وجدوا أن عمليتهم خاسرة، وضعتهم في حرج غير مبرر مع السلطة التي تتعاون مع إسرائيل أمنيا. وهنا يتخلون عن أسيرهم، بينما كان المتوقع أن يقتلوه فيخلصوا من عبئه، ولكن الكاتب أراد أن يقول إن الفلسطينيين لا يقتلون لشهوة القتل، بل ضمدوا جراح أسيرهم وتبادلوا معه السجائر، وتركوه في حماية راعٍ، وأمنوه في الجزء المسيحي من المقبرة، وانسحبوا ليواجهوا مصيرهم الذي انتهى بهم إلى معركة مع كتيبة للصهاينة كانوا يمشطون المنطقة باحثين عن قتلة المجند، قُتل الفدائيون الأربعة، كما قتلت الطائرات الصهيونية الراعي، ليبقى شام في المقبرة وحيدا فاقدا الذاكرة. لكن يعثر عليه غجري ممن يمشطون الارض بحثا عن شيء يبيعونه، يأخذه إلى بيت عجوز عمياء فلسطينية بيتها يقف وحيدا قرب سور المقبرة، ابنتها -واسمها فلسطين- تشارك دعاة سلام أوروبيين التظاهرات اليومية ضد جدار الفصل العنصري، ولها علاقات طيبة مع بعض المتظاهرين الإسرائيليين من أعضاء الحزب الشيوعي، تغيب بين حين وحين في المعتقل مع بعض الأوروبيين، ولكنها لا تقضي وقتا طويلا فيُخلى سبيلها وتعود إلى أمها. أما نسيم ابن العجوز فقد اختفى، ولا تعرف العمياء عن أخباره شيئا، هل قُتل أم سُجن أم أنه مطارد؟ زوجها اغتاله الصهاينة، انسكب مخه ودمه على مقود السيارة التي كان يقودها وبجواره ابنته فلسطين، لا تبارح المأساة خيالها مطلقا. تقوم العجوز بتمريض شام وتستدعي له الطبيب العربي الذي يعالجه، يقول لها الطبيب إن هذا الرجل الفاقد الذاكرة ذو شبه شديد بابنها نسيم، وسرعان ما تجد العجوز ضالتها في هذا الوهم، وتجاريها ابنتها فلسطين، وتلتئم الأسرة، فتمنح أفرادها المشاعر التي افتقدوها بمقتل الأب وغياب الابن. وهكذا يصبح البيت خطرا، فالشرطة الصهيونية تأتي دوريا لتعاقب فلسطين على عملها السلمي، والأسرة تخشى أن يأخذوا الابن نسيم إن وجدوه، فلا شك عند الأم أن ابنها نسيم قد أصبح مطاردا، وأمثاله فدائيون يبحث عنهم الصهاينة. تصل الأم إلى الحل، فإن على الابنة فلسطين أن تذهب إلى الخليل المدينة لتكمل دراستها في الكلية، وتأخذ نسيم معها لعل أحدا يتعرف عليه. الخالة ليلى وزوجها أستاذ الجامعة يتقدمون بطلب لاستضافة فلسطين، إذ لا يمكن لأي من أهل الخليل استضافة فلسطيني من خارج الخليل إلا بتصريح. مرور نسيم (شام) مع أخته إلى الخليل عبر نقاط المراقبة محفوفٌ بالمخاطر، ولكن فلسطين التي أصبح وجهها مألوفا عند الجنود الصهاينة تمكنت من تمريره، ولما لم يكن له تصريح إقامة عند الخالة فقد أوجدوا له مكانا عند المصور. المصور رجل سلام، يحتفظ بأفلامه التي تكاد تجمع شتات الذاكرة الفلسطينية الحديثة، بيته يصبح مأوى للمطاردين، وهنا يجعل الراوي مركز التصوير مأوى للذاكرة والمطاردين، ذاكرة الفلسطينيين يطاردها الصهاينة. كون المصور من دعاة السلام يجعل بيته آمنا على نحو ما، يودع نسيم نفسه عند المصور، يتعرف على المطاردين، كلهم مقاتلو حرية، كلهم لهم ثأر شخصي مع قوات الاحتلال التي قتلت ابني أحدهم وأبوي الآخر. والمصور له إشكال مع السلطة فهم يشكون في إيوائه مطاريد، وحماس لا تحب سلميته المبالغ فيها. وفي النهاية تهتدى الشرطة إلى المخبأ فيفر أحد المطاريد، ويُعتقل الاخر أو يقتل. فلسطين تحاول أن تحمي أخاها مرة أخرى، لكن السلطات الصهيونية تعتبر أن تصريح الاستضافة الذي يؤهلها للعيش عند خالتها لم يعد مقبولا، لماذا؟ لقد اعتُقل زوج خالتها، وهذا ينهي التصريح، تضطر الى اللجوء بأخيها إلى نزل خلف مطعم تملكه امرأة مصرية. ورغم أنه من الصعب توقع ذلك، أي توقع وجود مصري في الخليل، لكن الرمز هنا ضروري، حيث إن مصر الدولة العربية الكبرى من المتوقع أن تكون الملجأ الآمن. وهنا نجد أنفسنا في مشهد روائي بالغ الغرابة والإثارة، فلسطين ونسيم، رجل وامرأة، في مخدع واحد، كلاهما يعرف أنه ليس أخ الآخر، الإخوة ستار ارتضته العجوز ولم يكن للمجتمع أن يقبل بهذا الرجل إلا في هذا الإطار، البنت تعرف أن هذا الرجل ليس أخاها- بل تعرف السر الأكبر عن أخيها الحقيقي، السر الذي تحجبه عن أمها، حتى لا يموت الأمل في قلب الأم كما مات الضوء في عينيها. يقضيان ليلة والشيطان ثالثهما، لكن الشيطان لا يستطيع أن يصل إلى أكثر من نومهما متلاصقين، تستطيع الفتاة ان تتزوج أخاها المزعوم، فقط عليها أن تنادي صاحبة النزل وتجد شهودا لكنها رغم حرقة الشوق لا تفعل، لأن وهم الأخوة قد تمكن منهما. يجعل الكاتب هذا المشهد معادلا لاستحالة العيش بين الفلسطيني والإسرائيلي، وهم التآخي عند الفلسطينيين يقف مع الأساطير الصهيونية حائلا بين الطرفين، فإذا افترضنا أن اليهود هم ضحايا النازية فإنهم بدلا من أن يلجؤوا إلى فلسطين فيعيشوا في وئام مع أهل البلد أصروا على أن يجعلوا حل عقدتهم مع النازية سببا لمصادرة حياة الفلسطيني وأرضه. تنتقل الرواية مرة أخرى عبر تضاريس جزر الضفة الغربية ، ترافق الرواية شام وفلسطين العائدين إلى أمهما، وجدوا البيت مدمرا والعجوز تحت الأنقاض، مشهد يومي في فلسطين، كل من يًتهم بعملية فدائية أو يقع بيته على الحدود يهدم، لم تنتبه العمياء للإنذار الإسرائيلي الذي وضع في ورقة على الباب، تجمع الفلاحون وجاء الجنود الإسرائيليين يراقبون المشهد ، أخذ الفلاحون يزيلون الانقاض، وجدوا العجوز في الرمق الأخير، زاد حرج الجيش الصهيوني أمام دعاة السلام الأوروبيين، هيأوا سيارة إسعاف مدرعة تفتح الطريق عبر الحواجز، فلسطين مع جسد أمها التي تموت بسبب النزف في سيارة الإسعاف، في نفس مشرحة مستشفى المحتسب التي عثرت فيها فلسطين على جثة أخيها الحقيقي لكنها ادعت أنه ليس نسيم أخوها، الشهيد يبقى حيا عند الفلسطينيين. ولا يسمح له بالموت. يحاول نسيم اللحاق بأخته عبر الحواجز، لا يصل إلى المستشفى، وأخيرا يستدل على مخبأ المطاريد، أشباح خارج الحياة، بعضهم ينتقد موافقة حماس على هدنة والآخر ينتقد سلمية السلطة، وصلتهم محفظة عُثر عليها لمجند صهيوني اسمه شام، يشبه نسيم كثيرا، يصبح نسيم (شام) مهيئا لعملية انتحارية أو استشهادية، لم يحتج الأمر لان يقنعه أحد، أي فلسطيني تحول إلى مطارد بين أشباح، تموت أمه ويضيع حبه فلسطين ينمو طبيعيا في هذا الاتجاه. تأخذنا الرواية من الخليل إلى بيت لحم فالقدس، يصبح نسيم جاهزا للعملية الاستشهادية، لم يتردد، فجأة استدلت عليه إحدى معارفه الاسرائيليات، تستفز الذاكرة المفقودة، قالت إنهم انتظروا طويلا، أخوه الفنان التشكيلي في طريقه للانتحار، لا يستطيع تحمل إثم كونه صهيونيا عليه أن يقتل الأبرياء. غير شام وجهته، إلى كهف أخيه، يتركنا الروائي عند الكهف، الكلمات تقول انه نفذ عمليته الانتحارية في نفسه فقط، كان يريد أن ينتقم للفلسطينيين، كان يتطلع للرحلة إلى السماء حتى يلتقي بأمه العجوز العمياء وعشيقته أو أخته فلسطين، وهو إذ اكتشف حقيقة أمره، يشعر ربما أنه كان في المكان الخطأ، أو كان خطأ في المكانين، إذن سيفجر الحزام الناسف، لا يريد ان يكون الضحية من الأطفال، يكفي أن يدفع الثمن وحيدا. رواية تقول لنا إن الذاكرة التي تلاحق الإنسان قد تقوده إلى الهاوية، لقد أخذت اليهود من هاوية النازية إلى هاوية الصهيونية، من ضحية تحول اليهودي إلى مجرم تقوده الذاكرة إلى إهلاك الأبرياء، ولكن لماذا لا تقوده للحق والعدل؟ طالما أنها تهيئه ليكون صهيونيا في معسكر الجيش، وفلسطينيا حين يفقد الذاكرة!