معالي الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة..

القدوة ورجل الدولة وفقيه القانون.

تقوم الدولة وتبنى الأوطان على سواعد الوطنيين المخلصين، ولقد كان الفقيد، مطلب النفيسة، من البارزين ضمن الفئة الريادية في تاريخ المملكة المعاصر. توفي أبو خالد يوم الخميس 27 رمضان 1446هـ (27 مارس 2025م) بعد عمر يناهز 88 عاما، الله يغفر له ويرحمه، ويلهم أسرته الكريمة وذويه ومحبيه الصبر والاحتساب. ولقد رحل المرحوم تاركاً سيرة فاضلة وغنية جدًا، مما يجعل من الصعب جدًا حصر تلك السيرة الحافلة الكريمة. ونظرًا لاتساعها وتعددها، فقد كتب عنه الكثير أثناء حياته من أساتذة أفاضل سابقين، كل حسب معرفته وطريقته، ولا شك أنها كانت كتابات غنية وثرية. ولهذا، سوف أوجز ولن أذكر إلا عن قليل من كثير مما أعرف عنه أو أرغب أن أشير إليه، وذلك في ضوء علاقتي الطويلة معه. وعمومًا، يجمع كل من عمل معه وعرفه أو رافقه، أن أبا خالد تميز بصفات وقدرات عديدة راقية. وعلى سبيل المثل لا الحصر، قوة الوطنية والإخلاص، والعمل الدؤوب دون كلل في كل مسألة يتولاها أو يشارك فيها وذلك بكل مهنية، بل كان بمثابة صمام للدقة وسلامة معالجة المسائل. وأيضًا، الكل يجمع على حدة ذكائه وسرعة فطنته وقوة ذاكرته واتساع خلفيته، إضافة إلى سمو أخلاقه الرفيعة، وعلى رأسها فضيلة التواضع، مع كل اللباقة والاحترام للصغير والكبير في الوقت ذاته. وتجدر الإشارة في هذا المقام، أن أبا خالد درس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثم أكمل الماجستير والدكتوراة بدراسة القانون في جامعة هارفرد. وبعد عودته أصبح مستشارا قانونيا في مجلس الوزراء، ثم عين رئيسا في شعبة الخبراء التي تحولت إلى هيئة الخبراء، كما أصبح بمرتبة وزير في عام 1993م. وعلاوة على هذا، أصبح مطلب وزيرا للدولة وعضوًا في مجلس الوزراء في عام 1995م، وظل وزيرًا حتى توفاه الله، وذلك على مدى 30 سنة، ويعتبر أقدم الوزراء من بين رفاقه. ولا شك أن بقاءه الطويل، كان يؤكد مدى ثقة حكومة خادم الحرمين الشريفين، وحرصها على التمسك فيه، وتلك أكبر وسام في حقه، رحمه الله. لقد بدأت علاقتي معه في عام 1990م، وذلك عندما اتخذت الدولة قرارًا سياسيًا واستراتيجيًا حكيمًا وصائبًا، والذي يقضي بضرورة حسم مسائل الحدود المتبقية بين المملكة وجيرانها، سواء تلك التي كانت تحكمها اتفاقيات سابقة، أو غيرها مما بقيت معلقة، أو تلك التي تأخر تنفيذ بعض المواد في الاتفاقيات المذكورة على الأرض، برا وبحرا. ونظرًا لتخصصي في الحدود أصبحت لحسن الحظ واحدا من الزملاء الذين جرى الاستعانة بهم، سواء من جهة وزارة الداخلية، مع معالي الدكتور إبراهيم العواجي، أو مع الهيئة العليا في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، برئاسة الأمير سلطان، رحمه الله، إضافة الى الدكتور عبدالعزيز الخويطر والدكتور مطلب النفيسة وآخرين، حيث أصبحت مستشارًا. وعلى كل حال، تطور العمل فيما بعد إلى دراسات ليست عن الحدود فحسب، بل وشملت قضايا مهمة أخرى بالداخل والخارج. بعض الدروس والذكريات: عدا عن مسائل العمل، تطورت العلاقة الشخصية الخاصة بيني وبين أبي خالد مع الوقت، ولقد استفدت كثيرًا من علمه وحكمته ومهنيته وأخلاقه، وأدين كثيرا لتأثير فضله النبيل في حياتي، ومنها بإيجاز: •طاقته وحيويته: خلال الفترة التحضيرية، ظل مطلب يعمل ليلاً ونهاراً دون كلل من أجل تكوين خلفية وأرضية عامة عن كل قضايا الحدود، ومحاولة إمساك كل الخيوط ذات العلاقة، أو المحتملة، أو التي قد تطرأ. ورغم حداثة علاقتي به بالبداية، كان يتجشم العناء ويأتي بنفسه إلى منزلي ليلاً، حيث يدور النقاش والتساؤلات وتبادل المعلومات، بل كانت تمتد أحيانا إلى الفجر. وهنا، صرت أعرف أنه بعد ساعتين أو ثلاث يذهب إلى مكتبه وعمله ويستمر طيلة النهار. •التركيز والإصغاء: في كل نقاش وعرض معلومات وتساؤلات يستمع أبو خالد ويصغي جيدًا، ولا يمكن أن يجادل أو يتعصب لوجهة نظر، ولكن بالنهاية يضع خلاصة رؤيته الحكيمة والجامعة. •التطور والتقدم للدول: لا زلت أتذكر رؤية وحكمة لن أنساها، ففي أحد المرات كنا نتناقش عن المملكة من جهة، وعن الدول العربية من جهة ثانية، فقال: “أن التطوير والإصلاح يجب أن يكون مستمرًا، وأن تكون الدولة سباقة في الخطوات والمراحل، وبالتالي لا تقف، وإلا فإن الأخرين سوف يلحقون، ونحن في نفس المكان”. •دقيق وعميق، وسريع الملاحظة: يشهد له بالعمق وكثرة القراءة، ويتميز بدقة المفردات والعبارات، بل وينتبه ويلاحظ أية خلل في المفردات والسياق. وأذكر أحد المرات، في مكتبه أنه كان يقرأ لي دراسة مكتوبة، وسريعا لاحظ في الصفحة الأولى أو الثانية، كلمة أو مفردة “فلول”، وفجأة رفع رأسه وقال يا فلان: “هذه مفردة يسارية، ما تصلح هنا”. •السرية العميقة: كان المرحوم يحفظ السر بشدة عن كل صغيرة وكبيرة في كل ما تولاه من مهام جسام عديدة، وكلها تبقى محفوظة في بئر عميق في صدره، ولا شك أن هذه صفة عالية من صفات رجل الدولة بحق، ورغم تقديري الكبير له، فإني لا أخفي أنني حاولت بمشقة أن أستشف بعض الجوانب، ولكن كنت أفشل رغم الثقة الكبيرة من طرفه، ولكن كان يكتفي أحيانًا بالتلميح الموجز البعيد، ويتركها لاستنتاجي أو قراءتي أو فهمي مخطئًا أو مصيبًا. •قائمة المنسيين: مما يشهد لأبي خالد، حرصه المستمر على التواصل مع الأخرين، إما في الحضور الشخصي، أو في الاتصال هاتفيًا، وهنا وعن درجة وفائه ذكر لي أن لديه ورقة مكتوبة يسميها “قائمة المنسيين”، وأنه يرجع فقط إليها وذلك في مناسبة رمضان أو الأعياد، حيث يهاتف الأسماء الموجودة في الورقة ويبارك لهم، ويطمئن على أحوالهم. وقال إن أولئك فئات مختلفة، إما زميل صبا وشباب أو إنسان كبير، أو صديق أو زميل قديم، أو صاحب فضل قديم في حياته ... الخ، وكما أوضح أنه قد يتجنب الاتصال مع بعضهم خلال السنة، وذلك خشية أن تفهم مكالمته لأول وهلة، وكأنه أراد من الآخر حاجة ما، أما في تلك المناسبات يصبح لا حرج فيها. ولا شك أنها عادة وفاء فاضلة وينبغي أن يحتذى فيها. •كل شيء يجيء في وقته: في ديسمبر عام 1991م، عقد مؤتمر قمة لدول مجلس التعاون الخليجي في الكويت، وقد ترأس الملك فهد، رحمه الله، الوفد السعودي المشارك، وكان مطلب من ضمن الوفد المشارك. وقبل فترة انعقاد المؤتمر، تجرأت وذكرت لأبي خالد، أنه يوجد مذكرة خاصة سبق أن جرى إعدادها من قبل مجموعة زملاء من دول مجلس التعاون، حيث قد اقترحت عدة توصيات للمؤتمر يهدف الدفع بالمزيد من الإصلاح والتطوير لمجلس التعاون، وعلى رأسها تأسيس مجلس شوري-برلماني يمثل كل دول المجلس، ويكون جزءًا من المجلس. وقد أخبرت مطلب أن المذكرة قد تم وضعها على جدول أعمال المؤتمر، حيث إن الدكتور أحمد الربعي، والدكتور عبدالله النيباري، رحمهما الله، بذلا كل جهد في أن تكون المذكرة على جدول أعمال المؤتمر. وفي حينه سألني مطلب عن المذكرة فأعطيته إياها، موضحًا أننا نأمل أن يتم دعمها من قبل حكومة المملكة. وبعد انتهاء المؤتمر وعودة مطلب، أخبرني أن الملك فهد اطلع عليها، كما أثنى على محتواها، إلا أنه ذكر أن تلك التوصيات أو بعضها تحتاج إلى وضعها في قرارات مما يتطلب الإجماع، وذلك كان صعبًا. ولكن استطاعت المملكة أن تجد حلاً وسطًا والإجماع عليه، وهو تأسيس هيئة استشارية خاصة تعنى بهذه القضايا، وكل دولة يمثلها عضوٌ مستقلٌ منها. ثم أوجز مطلب وقال: “اصبروا، كل شيء يجيء في وقته”. وهكذا، وهذه للتاريخ.