على هامش رحلات علامة الجزيرة.

قام “علّامة الجزيرة” الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، برحلات إلى العديد من الدّوَل العربية والأوروبية، كان هدفها في الغالب زيارة المُدن التي تحوي مكتباتها مخطوطات عربية قديمة، للاطّلاع عليها ووصفها وتصوير ما استطاع منها. وقد بذل خلال تلك الرحلات أوقاتاً طويلة وجهوداً مُضنية، تحدّث عنها الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري في كتابه “شيء من التباريح”، في معرض مقارنته بعلّامة الجزيرة، موضّحاً بأن لا مجال للمُقارنة، فقال: “هل تُريد من يافعٍ ينحتُ من صخر، كمُعمّمٍ يغرف من بحر!؟ إن شيخي حمد الجاسر رجُلٌ محسّد، جاب أجزاء المعمورة شرقاً وغرباً، ولقي الأحمر والأسود، وشافَهَ عادات الشعوب وثقافاتها ونقّب في خِزانات العالم، وكان عقلاً واعياً، وعيناً بصيرةً لمّاحةً، وأُذناً حافظة، عندما كان العبقريّ مِن أُدباء جيله: مَن يقول نظماً أو يشعر بالهجيني والسامر”! وقد قام الشيخ حمد الجاسر بنشر مُذكّراته العلمية ومُشاهداته أثناء تلك الرحلات في مجلّة “العرب”، وفي هذه المجلّة “اليمامة”، ثم قام بجمعها وإخراجها في كُتبٍ مثل: “رحلات”، و”في الوطن العربي”، و”إطلالة على العالم الفسيح” .. وغيرها. ولن نتطرّق هنا إلى الجوانب العلمية والبحثية التي تحفل بها كُتب الشيخ، ولكن سنعرض شيئاً من الفوائد العامة التي لاحظها، والمواقف التي واجهها، والطرائف التي تحدّث عنها في سياق تلك الرحلات، وهذه بعض منها: يقول الشيخ بأنه ليس صحيحاً ما يُقال عن نزاهة الأوربيين وغيرهم، ولا عن حُسن مُعاملاتهم على الإطلاق.. ومثل ذلك يُقال عن النظافة في تلك البلاد، وكتب: “دخلتُ أحد المطاعم الكبيرة في باريس، أنا وابنتي، فاحتجنا إلى حماية عمّا بين أيدينا من سقوط إحدى الحشرات. وبينما كُنّا سائرين في أحد شوارع لندن، على مقرُبة من سور حديقة صغيرة، جفلتْ ابنتي عندما أبصرتْ فأرة تقفز أمامها، مع كثرة القِطط والكلاب في تلك المدينة. وأذكر أننا كُنّا نتناول الغداء في مطعم فخم في أحد الفنادق في نيويورك، فشاهدتُ الذّباب يُحاول الوقوع في الطّعام، وعندما قُلتُ لأحد الحاضرين، وهو عربيّ (مُتأمرك) أكثر من الأمريكيين: “كيف تصفون لنا هذه المدينة بأنها خالية من جميع الحشرات المؤذية، وها هو الذّباب يكاد يسقط في طعامنا”!؟ فقال - ولم يكُن مُهذّباً في جوابه -: “لعلّهُ أتى معنا”! وقد كان في استطاعته أن يقول: “إن هذا نادرٌ، والنادر لا حُكم له”. ولا أظن أحداً مرّ بمدينة روما في فصل الصيف، ولم يُشاهد باعة البطّيخ في ساحة المحطّة، ورأى أسراب الذّباب تكاد تُغطّي ما يعرضون”! ومما لفت انتباه الشيخ أثناء تجواله في شوارع باريس: في حديقة “لكسمبورج” في “باريس” تماثيل كثيرة لمشاهير الفرنسيين، من ملوك وكٌتّاب وفنّانين وغيرهم.. ولقد وقفتُ طويلاً بقُرب تمثال الأديبة “جورج ساند”، حينما شاهدتُ حمامتين اتّخذتا من رأس التمثال مكاناً لمُناغاتهما. أما رأس تمثال الشاعر “شارل بودلير”، فقد ابيّض من كثرة وقوع الطير فوقه وتلطيخه.. وتمنّيتُ لوكُنتُ شاعراً لأُعبّر عما أحسستُ به من تفاهةِ ما تؤول إليه حياة الإنسان، مهما علتْ منزلته، وسما فِكرهُ. سِرنا في شارعٍ في “باريس” يغُصّ بالناس، يُدعى “سان ميشيل”.. وما أكثر الشوارع التي تحمل أسماء القدّيسين، في هذه المدينة العابثة اللّاهية، الجامعة بين المُتناقضات! وقد رافق الشيخ في رحلته إلى “باريس” و”لندن” في عام 1973 ابنتيه، وكتب اسميهما: “سلوا” و”مُنا”! وكتب في الهامش: القاعدة أن تُكتب الأسماء: “سلوى” و”مُنى”، ولكنني آثرتُ كتابتهما كما تٌنطقان، رفعاً للخطأ في قراءتهما.. وفي نصوص العُلماء المُتقدّمين ما يدُلّ على كتابة الكلمة كما تُقرأ، إذ أن القواعد الإملائية وسيلة لصِحّة القراءة، وليست غاية. وكتب الشيخ حين كان جالساً في صالة مطار “جتويك” في لندن، ينتظر الإعلان عن قيام الرحلة إلى مدينة دالاس بالولايات المُتّحدة: “لاحظتُ ظاهرةً قد تُعدّ غريبة في بلادنا، وهي أنني لم أرَ بين ما يقرُب من عشرين شخصاً مَن ليس في يده كتاب أو صحيفة.. أما المُتحدّثون -على قِلّتهم- فلا يكاد يُسمع لهم صوت، وإنما يتهامسون، أو يُخفضون أصواتهم”. وتحدّث الشيخ عن شخصية “أبي سليمان”، السفير الشيخ محمد الحمد الشبيلي رحمه الله، والذي كان فرداً في عصره في النُّبل وكرم الخِلال، فكتب: “كُنت أتعمّد عدم السفر إلى بعض البلاد التي يكون مُقيماً فيها، مع رغبتي في زيارتها، وأتباعد عن زيارته إذا علمتُ بقدومه إلى بلدٍ أنا فيها.. كما كان يفعل الشاعر “زُهير بن أبي سُلمى”، حين يمُرّ بقومٍ فيهم ممدوحه “هرِم بن سِنان”؛ أمير قومه وسيّدهم في الجاهلية، إذ أن هرماً أعجب بمدح زهير، فأقسم أنه كلّما مدحه أعطاه، أو كلّما سأله أعطاه، بل كلّ ما سلّم عليه أعطاه، فاستحيا زهير منه، فكان إذا رآه في جماعة خصّهم بالتحيّة دونه، فيقول: “عموا صباحاً، سوى هرِم بن سِنان”، ثم يُضيف: “وخيركم استثنيت”! وقد كانت بعض رحلات الشيخ الخارجية لمراجعة الأطبّاء والاستشفاء، وخرج من تجاربه من تلك الزيارات بوصيّة قيّمة يقول فيها: “ليست مقدرة الطبيب بمقدار تمكّنه من معرفة الأمراض وتشخيصها، ووصف وسائل علاجها: جراحة أو أدوية، ولكنها تكمن في التأثير على المريض، بما يُساعده على الشِفاء، بعد استعمال وسائله، وذلك بما يٌدخل الأمل على نفسه، بأنه سيُشفى من مرضه. فقد كان العرَب يُسمُّون الطبيب حكيماً، والحكيم هو الذي يضع الأمور في مواضعها.. والمريض عندما يحضر إلى الحكيم، يكون بحاجةٍ إلى ما يُدخل عليه الثّقة والطمأنينة، بأن علاجه لمرضه سيكون ناجحاً، وأساس ذلك إدخال الأمل عليه، وتقويَته في نفسه، وإغلاق جميع المنافذ التي يتسلّل منها اليأس، فاليأس هو الذي يُساعد على استشراء كلّ مرض، بل هو الدّاء القاتل”! وأخيراً، فمن طريف ما يتذكّره الشيخ عن زيارته الأولى للولايات المُتّحدة عام 1960، بدعوة من شركة “أرامكو” لعددٍ من الصحفيين، وكان رفيق السفر الأستاذ “حسن بن عبدالحيّ قزّاز”، وكانت الرحلة على متن طائرة الشركة، ويقول الشيخ: “اعتدتُ أن أنام أثناء الطيران، وهكذا كان أثناء عبور الطائرة فوق المُحيط، وإذا بالأخ حسن يهزّ الكرسي الذي كنتُ نائماً فوقه، ويصرخ بي قائلاً: “يا أستاذ، نحن فوق المحيط وأنت تغُطّ في نومك! قُم قُم، ألا تخاف من سقوط الطائرة”؟ فأجبته: “ إن سقوطها وأنا نائم أسهل منه وأنا يقظان، فدعني أنام”!