«بوكتشينو» بقعة من جنة الكتب!

هناك اعترافٌ صغير لطالما قبع مختبئًا في جعبتي وأحب أن أدلي به ، أنا إنسانة أمْيلُ ما أكون للعزلة والانطواء ، لو بحثتَ عن طفلتي في مدرستها القديمة بالمدينة المنورة ما كنتَ لتكتشفَ قطّ هذا السرّ الصغير ، فهي كانت تتحرك بنشاط هنا وهناك، تُلقي السلام على كل من حولها، تتبادل المزاح مع معلمة الرياضيات التي لطالما أمسكتْ بها فيما هي تُمعن النظر من نافذة الفصل الصغيرة ، تتساءل يا تُرى ماذا يوجد خلف الجدار المقابل ؟ أي حياة تختبئ وراءه وأي تفاصيل كثيرة تجري على بُعد قدم منها ؟ ، كانت المعلمة على علمٍ بعشقها للطبيعة وفي يوم قالت لها مازحة» أحضري حِزمًا من الجرجير والنعناع وأوراق الخس وافترشيها، وشغلي المذياع على صوت زقزقة العصافير ، هكذا تحضّرين وصفة الطبيعة في المنزل « ضحكتْ الطفلة وضحك الصفّ الدراسي معها . بدأت عزلتي تسحبني إلى جدرانها أكثر كلما نضوتُ عني ثياب الطفولة وارتديت جلد الشابة شبه الناضجة مني ، لم تعد الصحبة كثيرة العدد تغريني ، لم تعد «الشِّلل» التي لا حصر لها تجذبني إلى داخل حلقاتها، في المقابل كانت صديقة واحدة مقربة بحق ، إنسانة واحدة تفهمني وأفضي لها بمكنون صدري دون خوف أو خجل ، تكفيني كل الكفاية. في طفولتي ، غالبًا ما غضب إخوتي مني لدى كل «طلعة» أو «خروجة» كان بيتنا يحضر لها ، لأنني ومهما طال مكثنا في البيت ما كنت لأرغب بالخروج ، « لكنها الحديقة التي نحبها ، ومضت أشهرًا لم نذهب ، كيف لا ترغبين في الخروج ؟!!» ، كنت في النهاية حينما أرافقهم على مضض أجلب معي رواية قديمة أو جديدة، وأتمدد على البساط في الحديقة أراقب النجوم أو أنصت لحفيف أوراق الشجر فيما ألتهم أحرفها ، أو أنني ببساطة أستمع لحديث أبي وأمي الذي كان يتناول كل شيء بدءًا من السياسة إلى الأخبار فالدين وقصص الصحابة . لكن كان هناك مكان واحد في هذا الكون الذي من شأنه أن يجعل الدم ينفر خلال أوردتي شوقًا وحماسة للذهاب إليه ، وهو المكتبة ، نعم كان والدي حفظه الله ينظم لنا رحلات دورية إلى المكتبة ، ولكل واحد منا أنا وإخوتي الحرية في انتقاء كتابين يقتنيهما ، وكانت هذه هي «الطلعة» الوحيدة التي لم أكن لأملّ منها قط ، منظر الكتب المتراصة وبين كل دفتي كتاب عشرات ،بل آلاف القصص المثيرة المشوقة الكفيلة بطرد النوم من عيني لليال كان يثير كل سعادة وبهجة بي في هذي الدنيا . أذكر حين كنت في الصف السادس ،كنا نقضي الإجازة في مصر وكانت الأيام تمضي ببطء شديد بالنسبة لي والملل يكاد يقتلني حتى أخذني والدي ذات ليلة وسار بي بين الطرقات والشوارع دون أن أدري وجهتنا وإذا به يقف فجأة أمام مكتبة ، لم أصدق عيني في البداية وأنا أرى مئات من الكتب مصفوفة في أكوام فوق بعضها البعض، صرختُ حينها فرحًا وأنا أشير إلى رواية كنت أبحث عنها خلف البائع حتى أنه جفل ونظر خلفه في رعب! لماذا تراودني اليوم هذي الذكريات المنسية البعيدة ؟ وأنا التي لضيق الوقت وبعد المسافات فترتْ علاقتي بالكتب الورقية وبدأتُ رحلة لمّا تنتهي بصديقي الإلكتروني العزيز برنامج الpdf ، حتى صار متخمًا بالكتب التي قرأت والتي لم أقرأ بعد وصار حجمه يفوق حجم أي برنامج آخر لدي على الهاتف . هل تعلم تلك الأفلام التي تكتشف فيها البطلة ركنًا سحريًا ما ؟ حيث تتيه ذات نهار مشرق بين الأزقّة المتشابهة والحواري التي تنمو على جنباتها نباتات اللبلاب المتسلقة ، وتأخذها قدمها على حين غرة لركن ساحر دافئ، متجر عتيق تمتلئ أرففه بالأنتيكات العتيقة الباهرة الجمال، أو دكان قديم تفترش أرضيته الكتب ذوات الأغلفة القديمة النادرة ، أو حتى كوخ صغير مصنوعة أسقفه من الحلوى ومربى التوت ! هكذا وجدتني على غير موعد مع مفاجأة سارّة من هذا النوع ! كنت في مول غرناطة، و خرجت على غير العادة من باب ملاهي الأطفال الخلفي، ترافقني حبة قلبي وطفلتي مريم ، وإذا بي أرفع ناظري لأرى فوقي هذه الكلمة مطبوعة بأحرف ذهبية : «بوكتشينو» وتحتها مباشرة غرفة واسعة ملأى بالكتب ! كانت على الفاترينة الأمامية تحف غاية في الجمال والعتاقة مع باقة منتقاة من كتب نجيب محفوظ وديستويفسكي ، كالمسحورة دفعت الباب وولجت لتخفت على الفور كل الأصوات الصاخبة من خلفي ،كل شيء بدا مثاليًا ، كقطعة من جنة، كحلم طفولي عذب غادر حجرة الأحلام وتجسد في أرض الواقع ، الإضاءة الذهبية الناعمة ، الأرفف الخشبية المصفوفة بعناية ، تجولت بينها لأكتشف مدى التنوع الغني الذي تحويه كتبها، كل رواية تخطر على بالي أجدها فجأة بين يدي ، كل مؤلّف أبحث عنه أعثر على اسمه في ركن جديد خفي يظهر لي ، المقاعد الطوالة الواسعة المصقولة، مسؤولة المكتبة اللطيفة الملمّة بشتى الروايات ومؤلفيها ، السكينة التي تغشى المكان حرفيًا ،الهدوء والطمأنينة اللذين يعتريانك ، حقًا شعرت وكأنني أليس في بلاد العجائب وقد عثرتْ على بابٍ في جحر الأرنب ! جنتي التي لطالما بحثتْ عنها طفلتي موجودة هنا، في قلب المول الصاخب المزدحم ! أثناء زياراتي المتكررة لبوكتشينو زاد تقديري لفريق العمل باطراد ، فالكتب بحق منتقاة بعناية لتتناسب مع كل الأذواق ، وتم تصنيفها بمهارة وخبرة حقيقية ، كلما زرت هذا المكان الراقي الساحر شعرت حقًا بعشق أهليه للكتب ومؤلفيها وقرائها، أعني أن من عمل على تصميم المتجر وانتقاء الكتب وتوزيعها هم أناس ذاقوا حلاوة الكتب ومتعة الغوص في عوالمها ومتعة تصفح الورق والتعرف على الكتّاب الذين رحلوا وتركوا من ورائهم بصمة خالدة ، شيئًا من أرواحهم، نبذة عن تفكيرهم ونسخة من أسرارهم ودفين ذكرياتهم ! شكرًا بوكتشينو ، شكرًا لفريق العمل ومن ابتكر المكان ولمن عمل على جعله بهذا الرقي وهذا السحر الخلاب ، شكرًا من القلب أن أعدتمُ إليّ شيئًا من رائحة طفلتي .