(أغنية الرجل الطيب)

ثمة أشياء لا يمكن مراقبتها ورصدها.. إنها المشاعر.. تلك العوالم البعيدة في الداخل بنيرانها وجنانها، غير مرئية رغم كثافتها وحضورها ورغم كونها تقودنا غالباً إلى الطريق المناسب أو إلى الهاوية! تبدأ الافلام العظيمة غالباً ببدايات هادئة عادية لكنها ستفاجئك بنهاية بعيدة كل البعد عما كنت تنتظره أو تتوقعه منها.. خاصة حين يكون للأفلام هذا الطابع النفسي العميق والذي تتجلى فيه همجية الطبيعة البشرية واستسلامها للمادة والسلطة، والتي تمنح صاحبها الجبروت والقوة والقدرة على امتلاك كل شيء بهذه القوة، لكن المؤثر حقاً هو حين يقف الإنسان في صف إنسانيته ويختار أن يقف قبل الهاوية بخطوة وقبل العبثية بباب ليختار نفسه وقيمه، يختار الإنسان.. ولا شك أنه سيدفع الثمن باهضاً لكن ذلك سيكون ضريبة بسيطة في سبيل طمأنينة النفس وراحتها. في رواية “جورج اورويل 1984” قام أورويل بتصوير الحياة كجحيم مطلق ببناء عالم تحكمه الأحزاب الاشتراكية، وتمتص إرادة الأفراد شيئاً فشيئا حتى يصبح الشعب عبارة عن جثث تسير على قدمين مسلوبة الروح مخطوفة المشيئة، بإخضاعهم للرقابة والتجسس حتى بات أحدهم متأكداً أن الحزب يستمع إلى صوت أفكاره، والنهاية الظلامية للشخص الوحيد الذي رفع بصره قليلاً إلى الأعلى كانت متوقعة ومنطقية وفق عالم اورويل المريض هذا .. ووجدت الكثير من النقاط المشتركة ما بين فيلم “ حياة الآخرين “ وهذه الرواية، هذا الفيلم الذي يذهب إلى حد بعيد في طرح ذات الفكرة لكن بمحاكاة حقيقية للواقع، تجسد واقع الحزب الاشتراكي في ألمانيا بعد فصلها بجدار لتنقسم إلى ألمانيا الشرقية والغربية، وخضوع المبدعين والفنانين والكتاب وحتى البشر العاديين إلى الرقابة الدائمة من قبل القوى السياسية داخل الحزب، ليصبح الجمهور مجرد نمل يتم جره إلى المأوى المناسب يأكل ما كتب له أن يأكل ويعمل كما هو مدون في النظام ويسمع ويقرأ ويغني ويعيش حياته كلها وفق ما تمليه أوامر الدكتاتور وأي خلل يحدث في هذه المنظومة سيكون السجن أو الإعدام في انتظار صاحبها .. الفيلم يطرح الكثير من الأفكار السوداوية والمؤلمة، منها استغلال السياسي لنفوذه في استعباد الممثلة الجميلة لتكون تحت رحمة رغباته ليضمن لها الوقوف على المسرح والانتشار كلما لبت طلباته ورضخت له، وأدلجة الأقلام والعقول المفكرة والكتاب ليكتبوا وفق ما تريده سلطة الحزب، والتحكم بكل شاردة وواردة مما لا يترك مجالاً حتى للحظة صحوة داخل أي فرد من المنظومة الجاسوسية أو السرية لأن المراقِب كذلك مراقَب طوال الوقت.. لكن بطلنا استطاع أن يستمع إلى الصوت في أعماقه لأول مره وأدرك أن كل ما يفعله ليس سوى تجول في حياة الآخرين وبأن هؤلاء الآخرين هم بشر بمآسيهم وأحزانهم وحياتهم، لكن شيئاً واحداً كان يخفف من وطأة كل هذا الألم وهو الحب، والذي حرم منه الكثيرون، ولديهم الموسيقى التي تلامس الوجدان فتصلح ما اعوج في النفس وتطهرها، لحظة استماع الضابط لموسيقى “بيتهوفن” بينما يتجسس على الكاتب وحبيبته، لحظة السكون التي أيقظت إنسانيته ولامست آدميته ليقرر أن يكون حارساً لحياة الآخرين لا مراقباً وجاسوساً! ويبدأ بالعمل لصالح هؤلاء الذين لا يعرفهم بل يشعر بهم فقط، ويقوم بمغامرة خطرة للغاية، لينتصر لمبدأ الإنسانية والقيم ويقف بشكل لا مرئي خلف كل ما يمكن أن يخل بسلام هذا الحب أو يهوي بأصحابه إلى الجحيم، لكن القدر له رأيه ولا حكم على النهايات. يسقط الحزب بعد أعوام وتتهاوى معه الرتب العسكرية ويرفرف علم الحرية عالياً، وتتغير المواقع.. لكن ضابط الشرطة السرية يحتفظ بسره الثمين ليعيش بقية حياته وهو يعرف أنه كان رجلاً طيباً ولو لمرة واحدة في حياته. نهاية الفيلم مؤثرة فبعد أن كانت الشوارع في بداية الفيلم كئيبة خائفة وخاوية، تصبح حية ومليئة بالحياة والبشر. شيء ما يتغير في الصورة ليشعرك بالأمل.. وبعد أن يعرف الكاتب أنه كان محمياً من قبل رجل لا يعرفه يقرر البحث عنه ليكتب له رواية أسماها “أغنية الرجل الطيب” مهداة إلى ضابط المخابرات والذي بدأ حياته كرجل ينتهك حياة الآخرين لينتهي به المطاف كرجل طيب وكلا الأمرين كان سراً. وفيلم “حياة الآخرين” فيلم ألماني، صدر في 2006 وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، كما رُشح لجائزة الغولدن غلوب لأفضل فيلم بلغة أجنبية، الفيلم من بطولة “أولريش موه” بدور غيرد فيسلر، “مارتينا غيدك” بدور كريستا ماريا زيلاند، “سيباستيان كوخ” بدور جورج درايمان، أ”ولريك توكر” بدور أنتون غوبتز، ومن كتابة وإخراج “فلوريان هنكل فون دونرسمارك”.