عام الحرف اليدوية 2025..

حياكة البشوت .. أناقةٌ بخيوط الذهب

على مرّ العصور، ظلّ البشت رمزًا للأصالة والفخامة، يروي قصص الأجداد المنسوجة بإتقان في كل خيط من خيوطه، والمُطعمة بزري الذهب والفضة، ليصبح قطعةً تراثية تُجسّد عراقة الحرف اليدوية في المملكة، وبينما تحتفي المملكة بعام الحرف اليدوية 2025، تتجدد الأنظار نحو هذه الصناعة التي اشتهرت بها المملكة، وخاصةً في الأحساء، حيث يتوارث الحرفيون مهاراتها جيلًا بعد جيل، ليحافظوا على هذه الحرفة التي تجمع بين الدقة والذوق الرفيع، وتُرسّخ البشت كرمزٍ للهيبة والمكانة الاجتماعية. بشوت مميزة تزخر المملكة بتنوع واسع في صناعة البشوت، وتُنتج مناطق مختلفة بشوتًا متميزة بأنماطها الخاصة، ومن أبرز البشوت نجد: البشت النجدي الذي يُعرف بتصاميمه البسيطة وألوانه الغامقة، وعادة ما يكون مصنوعًا من الصوف الخفيف أو الوبر، ليمنح مرتديه إطلالة أنيقة مع لمسة من الفخامة، والبشت المكاوي الذي يُصنع في مكة المكرمة ويتميّز بخفة وزنه وتطريزاته الدقيقة، ويُفضل في المناسبات الرسمية والدينية، والبشت المدني الذي ينتشر في المدينة المنورة، ويُصنع غالبًا من أقمشة خفيفة تناسب أجواء المنطقة الحارة، ويتميز بتطريز ناعم وألوان فاتحة، والبشت الجنوبي الذي يُنتج في بعض مناطق الجنوب، ويُستخدم فيه صوف الأغنام المحلية، ويتميز بمتانته وكثافته، مما يجعله مناسبًا لفصول الشتاء الباردة. ورغم تعدد أنواع البشوت في المملكة، يظل البشت الحساوي الأكثر شهرة والأكثر طلبًا، حيث أصبح علامة فارقة في عالم الأزياء التقليدية نظرًا لجودته العالية، وخبرة الحرفيين الأحسائيين الذين توارثوا هذه المهنة عبر الأجيال، ودقة التطريز اليدوي بخيوط الزري الذهبية والفضية، كما أن انتشار الحرفة في الأحساء منذ مئات السنين، مما جعلها مركزًا رئيسيًا لصناعة البشوت في الخليج العربي، وتتفاوت سماكة الأقمشة وفقًا لفصول السنة، فهناك بشوت صيفية خفيفة، وأخرى شتوية مصنوعة من الصوف الثقيل، ومن أشهر أنواع البشوت الحساوية “البشت الملكي” و”المنديلي” و”الطابوق”، التي تتفاوت فيما بينها من حيث التطريز والنقوش التي تزينها، ما يجعل كل منها يحمل طابعًا خاصًا يميزه عن غيره. الزري.. خيوط الذهب يُعدّ الزري من أهم عناصر البشت، فهو الذي يضفي عليه لمسة الفخامة والرقي، والزري عبارة عن خيوط معدنية مطلية بالذهب أو الفضة، تُستخدم لتطريز الحواشي والأطراف بنقوش دقيقة مستوحاة من التراث العربي والإسلامي. وتُعدّ صناعة الزري فنًا قائمًا بذاته، يتطلب دقةً وإتقانًا بالغين، حيث يُصنع يدويًا ليحافظ على رونقه وبريقه لسنوات طويلة، وتمر عملية الزري بعدة مراحل تبدأ بصهر المعدن وصبّه في قوالب رفيعة، ثم سحبه على شكل خيوط دقيقة تُلف حول خيوط قطنية أو حريرية، ما يمنحها المتانة المطلوبة، وتُستخدم أنواع مختلفة من الزري في تطريز البشوت، منها الزري العريض، والزري الرفيع، والزري المبروم، ولكل نوع استخدامه الخاص الذي يُحدد وفقًا لتصميم البشت وطابعه الفني. لا يقتصر دور الزري على الجانب الجمالي فحسب، بل يُعبر أيضًا عن مكانة البشت وجودته، فكلما كان الزري أكثر كثافة وتعقيدًا في التطريز، زادت قيمة البشت وندرته، وتُعدّ الزخارف المطرزة بالزري بمثابة بصمة خاصة لكل صانع، حيث يبتكر الحرفيون أنماطًا مميزة تضفي لمسات فريدة على كل قطعة، مما يجعل كل بشت تحفة فنية قائمة بذاتها. أسرار الحياكة حياكة البشوت ليست مجرد مهنة، بل هي فنٌ متقن يُنقل من جيل إلى آخر، حيث يتعلم الأبناء أسرار الصنعة من آبائهم منذ نعومة أظفارهم. وتبدأ عملية صناعة البشت باختيار القماش المناسب، ثم تأتي مرحلة “التركيب” التي يتم فيها تحديد مقاسات البشت وخياطته مبدئيًا، بعد ذلك تبدأ مرحلة “الهيلة”، التي يُضاف فيها الزري إلى أطراف البشت بخطوط دقيقة تبرز جماله، ثم تأتي مرحلة “البروج”، حيث يتم تطريز حواشي البشت بأنماط هندسية متناسقة، يليها “المقصر”، وهي مرحلة ربط الخيوط وتثبيت التطريز. وأخيرًا، تأتي مرحلة “البرداخ”، التي يتم فيها تسوية التطريز وصقل الزري ليبدو براقًا ومتناسقًا مع القماش. ويُعدّ كل من هذه المراحل تخصصًا قائمًا بذاته، حيث يتقن كل حرفي جزءًا معينًا من العمل، ما يضمن خروج البشت بأعلى درجات الإتقان. تُستخدم في الحياكة أدوات تقليدية مثل “المقراض” و”المكوك”، إلى جانب الإبرة والخيط، وتظل هذه الأدوات جزءًا أساسيًا من الحرفة رغم التطورات الحديثة، ورغم ظهور آلات الحياكة الآلية، إلا أن البشوت المصنوعة يدويًا لا تزال تحظى بمكانة خاصة نظرًا لدقة تفاصيلها وجمال نقشها، مما يجعلها الخيار الأول في المناسبات الرسمية والخاصة، حيث يُفضّلها الوجهاء والأعيان نظرًا لقيمتها الفنية والتاريخية. مهنة متوارثة تُعتبر صناعة البشوت من المهن التي حافظت على بقائها رغم تطور الزمن، وذلك بفضل العائلات التي تناقلتها عبر الأجيال. ففي الأحساء، لا تزال بعض العائلات متخصصة في هذه الصناعة منذ مئات السنين، حيث تُنتج بشوتًا تحمل توقيعها الخاص، ما يجعلها تحظى بثقة العملاء من مختلف أنحاء المملكة ودول الخليج، ويتطلب إتقان هذه الحرفة سنوات من التدريب والممارسة، حيث يبدأ المتدربون بتعلم أساسيات الغزل والخياطة، ثم يتدرجون في المراحل المختلفة حتى يصبحوا قادرين على تنفيذ أدق تفاصيل الحياكة والتطريز. ورغم أن بعض الحرفيين لجأوا إلى إدخال تقنيات حديثة في التصنيع، إلا أن الطرق التقليدية لا تزال هي الأساس في هذه الحرفة، لما تمنحه من طابع فريد يعكس روح التراث. ومع احتفاء المملكة بعام الحرف اليدوية 2025، يشهد قطاع صناعة البشوت اهتمامًا متزايدًا، حيث يتم دعم الحرفيين وتشجيعهم على تطوير إنتاجهم، مع الحفاظ على أصالة الحرفة وجودتها، وتسعى العديد من الجهات إلى تنظيم مهرجانات وورش عمل لتسليط الضوء على هذه الصناعة، وفتح آفاق جديدة أمام الشباب الراغبين في تعلمها، كما يتم العمل على تسجيل صناعة البشوت ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، لضمان استمرارها وحمايتها من الاندثار، وتُعدّ المبادرات التي تهدف إلى دعم الحرفيين وتوفير المواد الخام بأسعار مناسبة من العوامل التي تُسهم في ازدهار هذه الحرفة، خاصة مع تزايد الطلب على البشوت اليدوية في الأسواق المحلية والعالمية. إرث ممتد عبر الأجيال يتربع البشت على عرش الأناقة في الزي السعودي الرسمي، حيث يُكمل إطلالة الدشداشة والشماغ والعقال، ليصبح رمزًا للوجاهة والمكانة الاجتماعية، ولا يقتصر ارتداؤه على المملكة فحسب، بل يشكل جزءًا أساسيًا من الأزياء الرسمية في معظم دول الخليج العربي، مع اختلافات طفيفة في تقاليد ارتدائه، وللبشت بروتوكولات خاصة يحرص الكثيرون على اتباعها، أبرزها اختيار اللون المناسب لكل مناسبة؛ إذ يُفضل الأبيض في الأعياد، فيما يُعتمد الأسود في المناسبات الرسمية، بما في ذلك لقاءات العمل، بينما يختار البعض ألوانًا أخرى مثل البني، والأصفر الفاتح، والبيج، وفقًا لأذواقهم وخصوصية كل حدث، أما طريقة ارتدائه، فتخضع لتقليدٍ متوارث، حيث يُمسك بالبشت باليد اليسرى، بينما تظل اليد اليمنى حرة للمصافحة والسلام، وهو مشهد مألوف يضفي على مرتديه هيبةً ووقارًا في مختلف المحافل. وتظل حياكة وزري البشوت فنًا يجمع بين الأصالة والجمال، حيث يعكس كل خيط فيه إرثًا ممتدًا عبر الأجيال. وبينما تخطو المملكة خطوات كبيرة في الحفاظ على تراثها، يظل البشت شاهدًا على براعة الحرفيين السعوديين، ورمزًا للأناقة والوقار، ومع استمرار الجهود لحماية هذه الحرفة، يبقى البشت قطعةً فريدة تحمل عبق التاريخ، وتروي حكاية التراث السعودي بخيوطٍ من ذهب.