الذكريات: ودائع في تاريخك.

اقتباسًا عن هوميروس: «قد تكون أي لحظة هي الأخيرة لنا، كل شيء يصبح أكثر جمالًا لأننا محكومون بالفناء، لن تكون أبدًا أكثر روعة مما أنت عليه الآن، ولن نكون هنا مرة أخرى» تزامنًا مع طقوس البهجة والسعادات الكونية التي نشهدها في جُموع وأسراب، أرفض أن أحصر الذكرى في زاوية قاتمة معزولة، بعد أن أرهبتني لذعة الفوات وعطشي للزائل. أتأمل في المسرّات الآنية كلحظة فريدة لن تتكرر أبدًا، لن تتجسد بنفس اللقطات، بنفس الإيقاع، بنفس الانفعالات، وأُحاكم نفسي: لمَ لا نجند الذكريات السعيدة ونعتاش منها ونغالي في تخليدها للاحتماء بها كملاذ خالص؟ لماذا لا ننتبه لعمرٍ يمر قبل أن يغيب في العدم، فنخلّد أطلاله بسعادات عارمة تتقدّس أنقاضها عوضًا عن أي شعور نقيض؟ •لحظة تُعاش بحذافيرها الآن، تُستعاد لاحقًا بامتنان. أستجمع المسرّات واحدة تلو الأخرى مذ فطنت لحسرة التلاشي، وغياب الأحبة في دوران الطقوس، وفراغ المكان من حاضر لا يغيب، وتضاؤل الأشياء كلما تمدد الوقت، ووجع الحاجة للكلام بعد فناء المقصود، وقد أكون وصلتُ متأخرة لهذا الإدراك، بيد أني لم أزل أركض في ممرات الحياة حيث كل خطوة ذكرى وكل ذكرى هي احتمال عتاد أو نكبة، فلمَ لا أحمل في بقيتي عتادي عوضًا عن ألغامي واحتراقي! فالزمن يؤسس أصلًا نكباتنا وابتلاءاتنا بلا تدخل منا، وهذا محكّ بقائنا واستمراريتنا وتمايزنا كبشر، لكن ما نُخلّقه بصنائعنا هو خيارنا الذي تتقدّس فيه مسيرتنا أو تترمد. ثمة ذكريات حزينة ينبع حزنها لمُضيها فحسب لكنه حزن مطلي بالبسمات، تحمل وهجًا يُعاش في كنفه ويُستزاد بتفصيلاته، وثمة ذكريات مؤلمة تتفاقم فظاعتها في الفوات؛ لأنها لقطة لم تحظَ بالتقدير والمهابة، تفرقعت في غياهب تجاهلها وتناسيها حتى أضحت بقعة قاتمة في الذاكرة تكبر كلما عاد مشهدها في زمن آخر! في سنوات مضت، كنتُ أنصت للفرح دون أن أغطس فيه فيرتخي ويتبدد، حتى إذا احتجتُ الفتات منه حنّت إليه نفسي واضطربت بلا جدوى، كانت تزورني الدهشة ككيان يذوب في التفاصيل، لكني من الوهن لا ألحق بها فترتحل في بُعد لا أتمكن من استعادته، كانت كل الأشياء جميلة لكن عيني لم تلاحظ، لم تزل الأشياء وهّاجة، لم يزل الأشخاص أجمل، لم تزل قفزاتنا في الحياة تستدعي الذهول مهما بلغ التعب والجَلد والرهبة، لكنني أحمل ندمًا على فوات اللقطات التي لم تستوقف ألحاظي برغم محبتي واهتمامي وتقديسي للحظات، كان ميلي للعزلة أكبر، للكدح أكثر، تاهت روحي في زحام الحياة وتناست قَدر اللحظات الكثيفة بالتلاشي والزوال، مهما بدا احتشادها ستذوي، نسيتُ حتمية الزوال ككائن زائل في أصله، حتى استدركتُ في لحظة فرحٍ جمعيّ بصفعة يقظة مهيبة، أن الذكرى هي ما نعيشه الآن، هي ما يسري في عروق اللحظة وتشعباتها في الحال، ليست الذكرى ما يحدث لنا دون أن نتدخل فيه، ونبكيه ونهجيه! الذكرى هي إرث وحصاد، تأثيرٌ وتشجير، أثر تعانقنا جذوره على الدوام، لم تكن الذكريات بؤسًا إلا في محدودية مدركاتنا، في حقيقتها هي ثوابٌ مقدّم نؤسسه في ذواكرنا يطغى على التضاد من الذكريات الذي يصيغه القدر ضمن اختباراتنا التي نثاب عليها! فلم تكن لحظة «الآن» بالنسبة لي مشهدًا عابرًا فحسب، بل بناء ولبنة أوقن أنها المثوبة التي ستلمع في مسيرتي، وحين تذوب سنوات عمري في زوالها سأجد في حصيلة حياتي مجد البطولات، وألفة التفاصيل وحنان القصص، وثراء التجربة، سأجد الوفرة والبركة والاعتزاز، برغم تداخل الأتراح والملاحم والعثرات… وإلى أن تُراق لحظات «الآن» وتتلاشى إلا من بقاياها، فإن صنائع الذكريات ودائع، فأي الودائع يستحق أن نفتش عنه في لحظة يستفق فيها ظمأ نحو حنان حقيقيّ أو مكان أصيل، أو صدق ثابت تجلى في ضوضاء الزمن وغوغائية التفاعلات؟ ذكرياتنا تاريخنا، فلنُحسن صياغة المسيرة، بما استطعنا إليه سبيلا: هذا ما شيّده ندم الفوات في روحي، بعدما تهدّم صرح لحظات كثيرة لم أعشها كما يجب، ارتحلت في زوالها قبل نباهة اليقظة ووحي الإدراك، فمن الحكمة أن يسترشد المرء بما فقد؛ ليظفر.