
كثيرةٌ هي المقالات والدراسات التي تناولت المشي كهواية لدى المبدعين، بوصفه وسيلةً للصفاء الذهني، وحافزًا للإلهام، وطريقةً لتدفق الأفكار. وبما أنني شديدة التعلّق به، سواءً كهواية أو كحركة جسدية بسيطة تحمل أبعادًا عميقة تعكس حالاتنا النفسية وانفعالاتنا، فقد قررت الكتابة عنه. لا من حيث أهميته الجسدية والذهنية، ولا ارتباطه بالإبداع الفني والأدبي، بل من منظور القارئ الذي يستكشف كيف يوظف الأدباء المشي في أعمالهم—كأداة تدعم السرد، وكأسلوب يكشف انفعالات الشخصيات، ووسيلة للتعبير عن معانٍ عميقة مثل التأمل، الوحدة، الفرار، الحرية والانطلاق. تأملات وذكريات: في رواية (السيدة دالاوي) لفيرجينيا وولف، يشكّل المشي أداةً سرديةً تنهمر من خلالها ذكريات الشخصيات وتأملاتهم ومكنونات أنفسهم. تتنقل الشخصيات في مدينة لندن، وخلال سيرها، يتعرف القارئ على العديد من معالم المدينة، مثل ويستمنستر، وشارع بوند، وريجنت بارك، وقصر بكنغهام، وغيرها من الأماكن الشهيرة. وأثناء تجوالهم، تنسج عقولهم العديد من الأفكار، وتنساب أطياف الماضي، فيتعرف القارئ على التجارب التي صاغت شخصياتهم. نستطيع اكتشاف إحساسهم العميق بالوحدة، إذ تتقاسم الشخصيات المكان ذاته لكنّها تظلّ عاجزة عن تحقيق تواصل حقيقي، مما يبرز الانفصال الداخلي الذي يطغى على حيواتهم. تسير السيدة «كلاريسا دالاوي» باتجاه شارع بوند لشراء الزهور للحفلة التي ستقيمها في منزلها، ويصحبها القارئ في هذه الرحلة التي تكشف منذ البداية عن الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها. وخلال هذه الجولة، تأخذنا في تأملات عميقة في ماضيها، مستعيدة ذكريات صباها وعلاقتها السابقة مع «بيتر والش»، وهي تتأمل في واقعها الحالي والخيارات التي أوصلتها إليه. كما يستعيد «بيتر والش» ذكرياته معها أثناء تنزهه في المدينة ذاتها. وفي أحد الأيام، تحمله الذكرى إلى سيرهما معًا في الريف، والبهجة التي كان يشعر بها حينها: «لم يشعر بمثل هذه السعادة في حياته بأسرها أبداً! وبدون كلام سَوَّيت المسألة، سارا إلى البحيرة. لقد حظي بعشرين دقيقة من السعادة المثالية. صوتها، ضحكتها، فستانها، وروحها، إقدامها المغامر؛ إنها جعلتهم ينزلون جميعاً من القارب ويستكشفون الجزيرة.»* هذا النص يعكس جزءًا من ماضيهما المنطلق، وذكرى لحظات نادرة من السعادة النقية، المتحررة من التوقعات الاجتماعية وقيود الطبقة الأرستقراطية. عبثية: ليس بالضرورة أن يعكس المشي مفاهيم التأمل أو الحرية والانطلاق والسعادة، فقد يستخدمه كاتب مثل ألبير كامو كتعبير عن العبث والانفصال عن الواقع. وهذا ما يحدث في رواية (الغريب)، حيث يسير «مورسو» في جنازة والدته متذمرًا من حرارة الطقس، وحركة المشيعين، ومنظر السيد بيريز، بدلًا من الانخراط في التجربة الشعورية للفقد! «كانت الشمس قد ملأت السماء، وبدأت تثقل على الأرض، وأخذت الحرارة ترتفع بوتيرة سريعة. لم أدرِ لمَ انتظرنا كل تلك المدة حتى بدأ المسير. كنت أشعر بالحر تحت ملابسي الداكنة. أما الشيخ القصير، الذي كان قد غطى رأسه، فقد أعاد خلع قبعته.........»* يكشف مشي «مورسو» في هذا المشهد ملامح شخصيته الغريبة اللامبالية، مما يمنح القارئ تلميحًا إلى ردود أفعاله التي ستقوده لاحقًا إلى ارتكاب جريمة عبثية بدافع الانزعاج الجسدي! اضطراب وضياع: «وانصرف مسرعًا كأنه يركض ركضًا. وَدَّ لو يعود أدراجه ويرجع إلى مسكنه، ولكنه حين تصوَّر نفسه راجعًا إلى البيت، شعر بنفور شديد؛ فهناك، في ذلك المكان نفسه، في ركنه ذاك، في تلك الحجرة الكريهة الرهيبة، إنما نضجت فكرة ذلك الأمر منذ أكثر من شهر... ومضى «راسكولنيكوف» يمشي قدمًا على غير هدى. لقد تحوَّل اضطرابه العصبي إلى ارتعاشات حمى، حتى إنه أحسَّ أنه يرتجف من البرد. إنّه يشعر ببرد أثناء ذلك القيظ الشديد. وأخذ يتفحص جميع الأشياء التي يلقاها في طريقه، باذلًا في ذلك جهدًا كبيرًا، ولكن على غير شعور منه تقريبًا، مدفوعًا إلى هذا بضرورة داخلية. لكنه كان يحاول بأي وسيلة من الوسائل أن يسلو، إلا أن سعيه هذا إلى السلوى لم ينجح كثيرًا؛ فهو ما يلبث في كل لحظة أن يعود إلى الاسترسال في أحلامه. فإذا هزَّته رعشة جديدة، فرفع رأسه ونظر فيما حوله، نسي على الفور ما كان يفكر فيه، بل نسي الطريق الذي قد سلكه. على هذا النحو، قطع جزيرة فاسيليفسكي كلها، ووصل إلى نهر «نيفا الصغير»، فعبر الجسر، واستدار إلى جهة الجزر.»* بالنسبة لي، يُعد هذا النص من رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي من أكثر النصوص الأدبية تأثيرًا، إذ تمكن من تصوير مشاعر القلق والتوتر النفسي والاضطراب الداخلي بمهارة فائقة من خلال وصفه لمشي «راسكولنيكوف»، وهو يسير تائها بلا هدى، ممزقا بين العودة إلى منزله الذي شهد نضوج فكرته الإجرامية أو الهرب منه. من يقرأ هذا النص يسمع وقع خطوات «راسكولنيكوف» المترددة ويشعر بضياعه وحيرته وارتباكه، إن دوستويفسكي لا يخبرنا صراحة بما يدور في ذهن بطلنا، بل يفتح لنا نافذة لاستكشاف أعماقه من خلال الوصف. حياة جديدة: في رواية (الحياة الجديدة) لأورهان باموق، يتكئ السرد على المشي كعنصر مهم يعكس التحول في شخصية بطل الرواية «عثمان» بعد قراءته لكتاب غامض، حيث يجد نفسه مدفوعًا للسير والتنقل بين عدة مدن وقرى في تركيا، بحثًا عن حياة جديدة ومعنى مختلف. منذ اللحظة التي يقرر فيها «عثمان» مغادرة عالمه المألوف، يمثل المشي أداة لاستكشاف المجهول، إذ يقول: «هكذا خاطرت بالخروج إلى المناطق التي قضيت فيها طفولتي، حيث عشت لمدة اثنين وعشرين عاماً، مشيت في الشوارع كما لو كنت في منطقة خطرة، في مملكة غريبة. لمس هواء ديسمبر/كانون الأول الندي وجهي كنسمة خفيفة، مما جعلني أعتقد أن هناك أشياء قليلة من المحتمل أن تكون قد تسللت من عالمي القديم، واخترقت هذا العالم الجديد الذي دخلته، أشياء عليّ أن أتعارض معها في الشوارع التي تتكون منها حياتي، فشعرت برغبة في الركض.» «مشيت بسرعة بجانب الأرصفة، متجنباً صفائح القمامة العملاقة وبرك الطين، أشاهد عالماً جديداً يظهر ويتحقق مع كل خطوة أتخذها...» في هذه السطور، يتضح كيف يستخدم باموق المشي كفعل رمزي؛ فهو ليس مجرد حركة، بل تجربة حسية ونفسية تعيد تعريف علاقة البطل بالعالم، في رحلة مليئة بالتحولات، والشكوك، والأمل. ختامًا، المشي في السرد الروائي ليس مجرد حركة، بل أداة تعبير تكشف ملامح الشخصيات وانفعالاتها، محولًا الفعل المألوف إلى تجربة ذات أبعاد نفسية وفكرية. وبالمناسبة، تناول أونوريه دي بلزاك في مقاله «Theorie de la demarche» (نظرية المشي) كيف تعكس الطريقة التي يتحرك بها الإنسان حالته الصحية، ومزاجه، ومكانته الاجتماعية، وحتى أخلاقه. يرى أن الجسد يفضح الأفكار والانفعالات دون وعي، إذ قد يخفي المرء مشاعره في ملامحه أو صوته، لكن مشيته تبقى صادقة. درس بلزاك المشي من زوايا فسيولوجية ونفسية وفلسفية، مؤكدًا أن لكل فرد أسلوبًا خاصًا يكشف طبيعته. وخلص إلى أن فهم هذه الحركات يمكن أن يكون مفتاحًا لتحليل الشخصية تمامًا كما تُقرأ ملامح الوجه أو نبرة الصوت. المصادر:.......................................... -رواية السيدة دالاوي لفيرجينيا وولف -رواية الغريب لألبير كامو -رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي -رواية الحياة الجديدة لأورهان باموق - Theorie de la demarche – Honore de Balzac