عندما نقرأ الشعر تستقر الكلمات والمعاني في عقولنا متجسدة كحكايات في الذاكرة، تمتزج وتتزاحم مع مشاعر كادت أن توشك على النسيان، ضيفتنا اليوم تمكنت من مراوغة الأحرف والمعاني لتتفتح أشعارها أمامنا كزهور في فصل الربيع، تحمل صمتنا ومشاعرنا وذكرياتنا في أبياتها التي تأتينا بعطر المعاني، فتروي عطشنا ونحن نتنقل من قصيدة لأخرى في ديوانها “ظمأ أزرق”، ورغم حداثة سنها إلا أنها تألّقت ولمع اسمها في فعاليات عدة وحققت نجاحًا ملموسًا، حتى باتت واحدةً من الشاعرات البارزات اللواتي استطعن أن يُنطَق باسمهن في عالم الشعر، وكان من اللافت أن مشاركاتها لا تقتصر على الساحة الوطنية فحسب، بل شاركت أيضًا في عدة مسابقات ومهرجانات دولية وتمكنت من إبراز موهبتها وجذب الانتباه إليها، في هذا الحوار التقينا بشاعرة الإحساء الشابة “حوراء الهميلي” حيث تقاسمنا مساحة الكلمات وتبادلنا الأفكار عبر طرفي الحديث، حاولنا أن نستكشف سويًا عالمها الشعري ونلقي نظرة عن قرب على روحٍ تشبّعت بنبض الحرف. * من الكيمياء إلى الشعر، كيف كانت بداياتك مع الشعر ومن شجعك على الاتجاه للكتابة الشعرية؟ ** كما البدايات الفطرية المختمرة في ذواتنا الطفولية، الذات المجبولة على الاكتشاف والانكشاف والميل غير الواعي، الانكشاف على هذه اللغة الثرية بمفرداتها كانت بدايتي مع الشعر، عندما كنت في المرحلة الابتدائية كانت مادة النصوص بالنسبة لي تمثل انبهارًا لا يُوصف، وعندما تصطف معاني المفردات أمامي أتساءل في نفسي بكل براءة: كيف لهذا الشاعر أن يعرف هذه الكلمات الكثيرة؟، حفظت المفردات الجديدة جيدًّا وأنا لا أعي هذا الانكشاف، ولم أكن أعرف ماهيته آنذاك، ولا تفسير لهذا الشغف والانجذاب، ترسبت لدي نتيجة لذلك خزينة لغوية منذ الصغر، أما عن انبثاق الشعر فهو انبثق من حاجة شعورية ملحّة في داخلي للتعبير عن حزني الشديد لفقد والدي ـ رحمه الله ـ عندما كنت في العاشرة من عمري. * “أحاول فهمي.. فهم بعض مشاعري.. أغور عميقًا في الأنا وأُعاني”، في حضرة صاحبة الأبيات، عندما تسافر “حوراء الهميلي” في أعماق الأنا، ماذا تحمل معها؟ وبماذا تعود؟ ** لم تكن الأنا سوى المرآة التي من خلالها أحاول أن أنكشف على الذات الشاعرة، المتشظية، المتسائلة، الأنا التي تساعدني على تفكيك الشخوص الكثيرة التي أحملها وأسعى أن أتقاطع معها، الشعر هو الطفل الذي تحمله الأنا ليتفرد بلعبة تخصه لوحده، واللعبة هي اللحظة الشعورية الحالمة، الشعر عندما يأتي بدفقته العاطفية، يأتي من أقصى نقطة في اللاوعي، لذا يجيء منسابًا وكثيفًا وحالمًا. * شاركت كضربة حظ في مسابقة أمير الشعراء التي أقيمت عام 2021، وأرسلت النصوص بشكل عشوائي، حدثينا عن تلك التجربة؟، وما الذي أضافته لكِ؟ ** مسابقة أمير الشعراء إضافة مهمة ومحطة فيصلية لكل شاعر، أمير الشعراء فضلا عن أنه منحني الانتشار والانفتاح على العوالم الأخرى، إلا أنه أضاف لتجربتي بعدًا آخر من خلال الانكشاف على الكتابة وألوانها المتباينة، الكتابة.. هذا النسيج اللوني الممتد وهذه اللحمة الإنسانية العظيمة، أن تكون بالرغم من ضجيج الخارج، متجردًا من كل شيء في محيطك الخارجي سوى من ذاتك الشاعرة، أن تكون على تماسٍ مباشر بك، مع صداك المتردد في المسرح وفي العالم أيضًا. لم تكن مسابقة أمير الشعراء فقط نافذةً يعرج منها الشعرُ إلى فضاءاتِه العليا، بل كان بُراقًا يحمل أنبياءه إلى فراديس اليقين، اليقين بأن الشعرَ يمنحنا عينًا ثالثةً نبصر بها الأشياءَ من حولنا، عين البصيرة التي بها نسبر ذواتنا الموغلة في الخفاء والتخفي أيضًا. أمير الشعراء يمنح أمراءه سببًا آخر للعيش، فالأحلام المعلقةُ على مشجب الروح، والمطويةُ في غرف النسيان، حريٌّ بها أن تستيقظ من سباتها لترى النور، هذا الكرنفال الشعري يؤكد لنا بأن هناك سببًا كافيًا نكافح من أجله، وهو هذا الأمل، أملنا باللغة والحياة والإنسانية؛ لأن الإنسان متى ما اتصل بلغته، فقد اتصل بذاته. * إلى أي مدى يمكن للمشاركة في مثل هذه البرامج والمسابقات أن تسهم في تطوير تجربة الشاعر وجذب المزيد من الاهتمام للشعر والأدب؟ ** المسابقات مختبر لتجربة الشاعر حيث يكتشف فيها قدراته، لكنها لها طابع ذو حدين، فالشاعر يجب أن يستغل المسابقات لذاته، لا أن يفقد هويته الشعرية لاسترضاء ذوق المسابقة، يقول أحد الكتاب: “يوجد حزن بعد الهزيمة، لكن يوجد حزن أكبر بعد الانتصار، لأن الحياة أثناء الانتصار تكون شاعرية مفعمة بالدهشة، لكن بعد الانتصار يكون الفراغ وتستحيل الحياة نثرية”. الجائزة تمنح المبدع نوعًا من الاستحقاق، حيث تخلق حافزًا مهمًا في تجربة أي مبدع، لكن يجب التعامل معها بحذر، الخطر يكمن في ربط القيمة بالجائزة؛ لأن القيمة لا بد من أن تكون من الداخل إلى الخارج وليس العكس، بالنسبة لي الجائزة تخلق لي حافزًا مهمًا للكتابة، إن لم يفز نصي، فأنا فزت بنص جديد أستطيع أن أضمّه لأي مجموعة شعرية قادمة. * الناقد كاظم الخليفة في قراءته لديوانك (ظمأ أزرق) قال إن الديوان كشف عن ذكاء كاتبته، وأنه جسّدَ شخصيتها الأنثوية في كثير من قصائده، هل لا يمكن للشاعرة أو الأديبة أن تنفصل المرأة عن أنوثتها حين تبدع، فيظهر حسها الأنثوي طاغيًا في كتاباتها؟ وهل هذا عيب أم ميزة برأيك؟ ** يقول شوقي بزيع: “نحن نكتب الشعر عندما تطغى فينا الأنوثة على الذكورة” بمعنى أن القصيدة ما هي إلا تأنيث وترقيق وعرفان وروحانية، الأنوثة التي تحاول إظهار مكامن اللغة من الداخل، تمر عليها بيديها الرقيقتين وبعينيها اللتين تفيضان دفئًا وحنُوًّا، عندما أكتب أحب أن تكون حاضرة حوراء الأنثى والمفكرة والفيلسوفة والأم والباحثة والمتأملة، أن تكون القصيدة عالمي الذي يحوي فساتيني وأقراطي ويحوي كتبي أيضًا وتفاصيلي الصغيرة. * يُقال إن “كتابة الشعر مغامرة”، إلى أي مدى تتفقين مع هذه المقولة؟ وكيف هو مذاق الوصول إلى نهاية القصيدة؟ ** المغامرة هي ما يحدو الخيال إلى أن يزور مناطق بكرًا لم يزرها الواقع قط، أهم سمة يجب أن يتصف بها الأديب والفنان عمومًا هي أن يكون مغامرًا وجريئًا ومكتشفًا، يخرج من دائرة الحماية الآمنة التي تبرمجت أدمغتنا عليها في سبيل حمايتنا من المخاطر؛ لأنه كما يقال: “أجمل الأشياء هي ما تقف على الحافة”، على الشاعر أن يدع نفسه تتشرب تجربة المغامرة، المغامرة لا تخلو من المخاطر والقلق ولكن بعد هذه المغامرة الحية سنقول: نعم، كل هذا الجمال الحي كان يستحق المغامرة والتضحية. * قلتِ ذات حوار: “الشعر عزلتنا الأنقى، عزلتنا الأقرب لذواتنا”، هل تشعرين أن هناك علاقة وثيقة بين صوت الشاعرة وهويتها الشخصية؟ وكيف تعملين على تطوير صوتك الشعري وأسلوبك الفريد؟ ** يقول إبراهيم الكوني: “العزلة معجزة لأنها ليست خلوة، ولكنها معجزة لأنها صلاة، بل هي المعجزة الوحيدة التي تستطيع أن تصنع من الإنسان أسطورة، لأنها ليست صلاة فقط ولكنها حرية”، ولأن في العزلة ترتيب روحي لفوضانا الداخلية فهي مهمة بين الفينة والأخرى وحتى في هذا الزحام والركض اليومي، لأن هذه هي الاستراحة التي نشحذ فيها قوانا ونلتقط أنفاسنا اللاهثة. أما عن الهوية الشعرية؛ فكما للصوت بصمته التي تميز كل إنسان عن آخر كما أثبتت البحوث العلمية، فإن الصوت الشعري لكل شاعر يجب أن يكون صوتًا خاصًا به، يتلبّسه ويتماهى معه، أن يكون صوتًا نقيًّا خامًا. * هل الدروب متاهات تَمُرُّرني.. نحوي لأعبر إِحساسي وأدخلهُ؟” هدوء الشعر مفعم بالضجيج، فكيف تروضين إحساسك لتجسيد هذا التناقض في قصائدك؟ وهل تعتبرينه تحديًا أم فرصة للتعبير عن الذات بطرق جديدة؟ ** كل ما يمثل الإنسان يعبر عن تناقضاته الحسية وعن عوالمه الداخلية الشتى، العوالم الساكنة المطمئنة السابحة في هدوئها، ويمثل أيضا عوالمه المسكونة بالفوضى، وحتى العشوائية المسكونة بالسؤال والبحث والتقصي والتخبط أيضًا، هذا التجديد منوط بالتأمل دائمًا، متى ما كان المبدع كائنًا متأملًا وواعيًا سيكون بلا شك مغامرًا يزور مناطق خفية يسعى لاكتشافها وللغور في مساحاتها الحرة غير المطروقة، التجديد سيكون دائمًا موجودًا ما دام الشعور بذلك شعورًا حقيقيًّا بإيمان تام بأن الأدب بإمكانه أن يحسّن جودة الحياة. * حضور المكان ورموزه في تجربتك الشعرية لَه عبقه وفاعليته بطريقة لافتة، نجد الأحساء وحضارتها وأرضها ونخيلها، ما الذي تمثله لكِ هذه الرموز؟، وكيف تمكنتِ بذكاءٍ مرهف من التعبير عنها؟ ** لطالما كانت النخلة رفيقة الإنسان في رحلته على هذه الأرض، ولطالما كانت العمق الذي يشدنا إلى طينتنا وجوهرنا الإنساني، الأحساء هي بيت روحي وأنس نفسي، والشاعر ربيب بيئته، الكتابة عن الأحساء أشبه بالكتابة عن الجنة، هذا الحلم الأبي والمتخيل الذي يظل يراودك، والمعنى الذي تريد نيله والقبض عليه حتى لا تفيق من هذا الحلم أبدًا. * الشعر يساعدنا على التغلب على النسيان والاتصال بأعمق جوانبنا الإنسانية، فكيف تستخدمين الشعر لاستدعاء الذكريات وتجليها في قصائدك؟ ** لا أستخدم الشعر كأداة لاستجلاب الماضي أو النوح على عتباته ولا لترسيخه، الشعر باستطاعته أن يكون ترياقًا، ماءً، مرآة سحرية، بإمكانه أن يكون أنيس عزلتي، بإمكانه أن يكون مقترحًا جديدا لتحسس خطى العالم، بإمكانه أن يكون عدستي المكبرة لرؤية الأشياء، وأن يكون حلم منامي الذي يرفرف في جفني، أن يكون جناحيْ نورسٍ عابر القارات، وأن تكون التماعة الضوء في عيني فراشة، بإمكانه أن يكون أبعد مما نظن، شجرة تضرب جذورها في عمق الأرض وتمد أذرعها للسماء، أحب أن يكون الشعر عيني اللتين بهما أرى جمالية ما حولي. * هل تخططين لإصدار ديوان شعري جديد في المستقبل القريب؟ ** ديواني القادم “قاب قوسين أو أدنى” سيرى النور قريبًا بإذن الله. وسَادَةٌ مُكْتَظَّةٌ بالأسئلة لَا أَعْلَمُ كَيْفَ يَنَامُ اللَّيْلُ وَفِي المُسْتَشْفَى امْرَأةٌ تَتَقَطَّعُ مِنْهَا الأَحْشَاءُ لِتَلفظَ طِفْلًا مُتَوَفَّى! لَا أَعْلَمُ كَيْفَ يَنَامُ اللَّيْلُ وَفِي البَحْرِ المُتَوَسِّطِ -فِي القَاعِ تَمَامًا- تَتَكَدَّسُ أَرْوَاحٌ خَوْفَ الحَسْرَةِ فِي الأَوْطَانِ اخْتَارَتْ هِجْرَتَهَا: مصيدةَ الأموات هنالكَ حَيْثُ الفَخُّ / المَنْفَى تَطْفُو الدُّمْيَةُ فَوْقَ المَوْجَةِ كَانَتْ قَبْلَ سُوَيعَاتٍ مِنْ زِرِّ التَّشْغِيلِ تُغَنِّي تَنْطِقُ: مَاما حَلْقُ الدُّمْيَةِ مِنْ هَوْلِ المَنْظَرِ جَفَّا! مَارِدُنَا الأَزْرَقُ يَبْلَعُهُمْ مِئَةً مِئَةً أَلْفًا أَلْفا لَا أَعْلَمُ كَيْفَ يَنَامُ اللَّيْلُ وَطِفْلٌ فِي الحَرْبِ تَخَيَّلُ أَنَّ قَنَابِلَهُمْ أَلْعَابُ النَّارِ لِعِيدِ المِيلَادِ الفَائِتِ مُبْتَهِجًا يَتَأَمَّلُهَا مِنْ نَافِذَةِ المطبَخِ يَبْدَأُ فِي العَدِّ عَلَى كَفَّيْهِ لِأَنَّ الطِّفْلَ سَرِيعُ النِّسْيَانِ يُعِيدُ كَثِيرًا فِي إِصْبَعِهِ الخَامِسِ تَحْدِيدًا طِفْلُ الحَرْبِ سَيَلْقَى الحَتْفَا! فَلْيُقنعنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ كَيْفَ يَنَامُ اللَّيْلُ؟ أَجَفْنٌ فِي غفْوَتِهِ رَفَّا؟ شعر حوراء الهميلي