رمضان والعيد في مكة المكرمة سنة 578 هـ كما وصفهما ابن جبير أمير الرحالة..
المسلمين في عصر الحروب الصليبية.

زار العديد من الرحالة العرب والمسلمين الديار المقدسة في مكة المكرمة، وسجلوا تفاصيل دقيقة عن الحياة الاجتماعية فيها، كما عايشوا الناس واختلطوا معهم، وسعوا وطافوا وحجوا وصاموا شهر رمضان الكريم، وتعرفوا إلى تفاصيل دقيقة لحياة المكيين من عادات وتقاليد متوارثه عندهم، فدونوا لنا في رحلاتهم الجميلة ما شاهدوه من احتفالات تقام خاصة في استقبال الأشهر العربية، ورسموا في رحلاتهم صور ناطقة حّية عن احتفالات المسلمين بشهر رمضان المبارك في مكة المكرمة من هؤلاء ابن جبير الذي وصف لنا حياة الناس في عصره في مكة المكرمة من خلال الشهر الكريم بكل أمانة وصدق. من هو ابن جبير: أبو الحسن محمد بن احمد بن جبير الكناني الشاطبي، البلنسي المولود في عام 540هـ الموافق 1145م في مدينة بلنسية من أسرة عربية عريقة، وبدأ ابن جبير بعد أن تلقي علوم الدين والشريعة في شاطبة وبرز كشاعر وكاتب لدي حاكم غرناطة بالأندلس. رحلات ابن جبير الثلاث إلى المشرق: الأولى: سنة 578هـ حيث خرج من غرناطة إلى مكة بقصد الحج استغرقت رحلته سنتين سجل فيها مشاهداته وملاحظاته بعين فاحصة في يومياته الشهيرة. الثانية: دفعه إليها أنباء استرداد بيت المقدس من الصليبيين من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ فشرع في هذه الرحلة سنة585هـ وانتهى منها سنة 586 هـ. الثالثة: كانت إثر وفاة زوجته، وقد دفعه الحزن إلى القيام برحلة ثالثة يروح بها عما ألم به من حزن على فراقها، فخرج من (سبتة) إلى مكة وبقي فيها فترة من الزمن ثم غادرها إلى بيت المقدس والقاهرة والإسكندرية، حيث توفي فيها. رحلة ابن جبير الأشهر: غادر ابن جبير موطنه غرناطة متجهاً إلى المشرق، ليقوم برحلته الأولى قاصداً الأراضي المقدسة ليؤدي مناسك الحج، وما كتبه بعد عودته، ووصفه لتجربته ومكابدته لمشاق السفر عدة آلاف من الكيلومترات، يؤكد مدى ما كان على المسلمين المقيمين بالأندلس أن يتحملوه من أجل أداء فريضتهم. أقام ابن جبير في رحلته هذه سنتين دون مشاهداته وملاحظاته في يوميات عرفت برحلة ابن جبير، وسميت باسم (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار). هذه اليوميات تعد من أهم مؤلفات العرب في الرحلات. فرغم أن كان هناك رحالة عرب ومسلمون كثيرون جابوا الآفاق ووصلوا في رحلاتهم إلى أبعد مما وصل إليه ابن جبير، إلا أن ابن جبير (رغم أن رحلاته تعد أقصر ولم تبلغ ما بلغته رحلات غيره) كان دقيق الملاحظة، فقد جاء من حضارة كانت قد وصلت إلى مرتبة عاليه من الرقى الحضاري والتقدم، لذلك فإن عينه اختزنت ما كان يشاهده ويصادفه، وقارنت بينه وبين الحضارة التي انتمى إليها، حضارة الأندلس الزاهرة. في 11 ربيع ثان 578هـ وصل ابن جبير جدة، وكانت وقتئذ قرية على ساحل البحر الأحمر الذي اسماه (بحر فرعون) وكانت أكثر بيوتها عبارة عن (أخصاص) وفيها فنادق مبنية من الحجارة والطين. وبها آثار قديمة، ومسجد مبارك منسوب إلى عمر بن الخطاب رض الله عنه، ثم واصل السير إلى مكة المكرمة فدخلها في الساعات الأولى من صباح اليوم الثالث عشر من ربيع ثان 578هـ. في مكة المكرمة ومن صباح اليوم الثالث عشر من ربيع ثان إلى العاشر من ذي الحجة أقام ابن جبير سبعة أشهر قمرية بانتظار أداء شعيرة الحج التي خرج من أجلها في رحلته. ولكن ابن جبير لم يظل ساكناً هذه الأشهر السبعة فقد قام برحلة داخلية بمكة زار بها الأماكن الشهيرة ووصفها، بدأها فور وصوله عندما دخل من باب العمرة، فطاف بالكعبة طواف القدوم وصلى بالمقام الكريم بعد الطواف، ثم تعرف على أماكن الزيارة ووصف مكة والمسجد الحرام. وفي فترة إقامة ابن جبير بمكة شهد شهر رمضان بمكة وصلى التراويح بها، وشهد ختم القرآن ختاماً رائعاً تتلألأ فيه أسمى معاني الإيمان. وصف الرحالة ابن جبير شهر رمضان في مكة المكرمة والاحتفالات الخاصة بقدوم وإحياء لياليه المباركة لعام 578هـ: وفق ما روى ابن جبير فقد استهل رمضان في العام المذكور يوم الأحد. ومن هنا، بدأ الاحتفال بالشهر الكريم. من مظاهر ذلك: «تجديد حصر المسجد الحرام وزيادة عدد المشاعل والشموع حتى تلألأ الحرم نوراً، وحتى يعلم الجميع ببداية الصوم أمر أمير مكة بضرب الدبدبة ليلة الأحد». وما إن بدأ الصيام حتى أسرع المسلمون على اختلاف مذاهبهم إلى إحياء سنّة نبيهم الكريم في قيام ليل هذا الشهر في ما يعرف بصلاة التراويح. ومما لاحظه ابن جبير أن رواد الحرم لم يكونوا يجتمعون في صلاة التراويح على إمام واحد، بل كان كل أتباع مذهب يختارون مكاناً بالمسجد الحرام لإحياء هذه السنّة، فالشافعية في ناحية والحنبلية في ناحية أخرى، والأحناف في ناحية ثالثة، والمالكية في ناحية رابعة والشيعة الزيدية في مكان اختارته لنفسها. أما المالكية فتميزوا بتناوب ثلاثة أئمة في صلاة التراويح، كما حرصوا على التميز وجذب انتباه رواد الحرم، ومن هنا تفننوا في إضاءة موضع صلاتهم وزادوا على ذلك في عام رحلة ابن جبير حتى قال: «وهي في هذا العام أحفل جمعاً وأكثر شمعاً، لأن قوماً من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعاً كثيراً من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب، وقد حفت بها شمع دون ذلك صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسْناً وترتمي الأبصار نوراً». وتركت هذه الجماعات أثرها في المسجد الحرام حتى ارتجّ المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية. والأهم من ذلك كله أن أصحاب المذاهب المختلفة لم ينكروا على بعضهم طريقة أداء هذه السنّة، ومن ثم لم يرصد ابن جبير أياً من مظاهر التنافر بسبب هذا الأمر، بخاصة أن الجميع حرص في رمضان على ألا يفسق ولا يرفس فما بالنا إذا كان في رحاب البيت العتيق. ومن الذين أشاد بهم ابن جبير في صلاة التراويح أتباع المذهب الشافعي حيث وصفهم بأنهم «أكثر الأئمة اجتهاداً، حيث يصلّون التراويح عشرين ركعة وبعد كل أربع ركعات يطوفون بالبيت سبعاً وبعد كل طواف يضربون طبلة ضربة عالية إيذاناً بالعودة إلى الصلاة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون». ومن مظاهر الاحتفال بشهر رمضان التي رصدها ابن جبير أن تضرب الطبول ثلاثاً بعد أذان المغرب وعند انقضاء صلاة العشاء وثالثة عند ميعاد العشاء الأخير أي في منتصف الليل، وهو أمر لم يرق لابن جبير حيث علق عليه قائلاً: «هي لا محالة من جملة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم، قدسه الله». وعلى رغم نقد ابن جبير هذه البدعة، إلا أنه لم يتحرَّ سببها ولا زمن ظهورها. عموماً نلاحظ أن ابن جبير لم يكن مجرد راصد لما شاهده في رحلته، لكنه كان ناقداً يزن كل الأمور بميزان الإسلام الصحيح فما وافق الميزان مدحه وما خالفه قدحه. أما عن التسحير فكان من مهام المؤذن الزمزمي- كبير مؤذني مكة- فإذا حل وقت السحور صعد للمئذنة القائمة في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربه من دار الأمير، فيقوم الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه. وفي ظل ظروف هذا العصر وعدم وجود مكبرات للصوت فقد قام الأمير بنصب خشبة طويلة أعلى المئذنة في رأسها عمود كالذراع به بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلين من الزجاج الغرض منهما إعلام الناس بظاهر مكة بحلول موعد الإمساك عن الطعام والشراب وبداية الصيام، فطالما بقي القنديلان مضاءين، فالأكل والشراب مباحان فإذا حط المؤذن القنديلين من أعلى الخشبة، بدأ المؤذنين من كل ناحية بالأذان. وعندما يسمع أهل مكة الآذان ويرون من سطوح منازلهم العالية القنديلين قد أطفئا علموا بحلول موعد الإمساك. ومما شاهده ابن جبير في مكة في رمضان زيارة الأمير سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، أخي صلاح الدين سلطان مصر والشام والحجاز واليمن في ذلك الوقت، ومن ثم فقد استقبل في مكة استقبالاً حافلاً ودخل المسجد الحرام فتطاول الناس لمشاهدة هذا الأمير الذي بالغ في تواضعه حال أدائه مناسك العمرة. ويبدو أن ابن جبير كان من ملاحقي الأمير طوال عمرته حيث وصفها وصفاً دقيقاً كما مدح خشوع الأمير ومرافقيه داخل الحرم، ومما أعجب به ابن جبير حرص الأمير سيف الإسلام على السعي بين الصفا والمروة على قدميه تواضعاً. كما حرص سيف الإسلام على دخول الكعبة المشرّفة من الداخل حيث أطال المكث، وبعده اصطف الناس لنيل شرف دخول الكعبة من الداخل. وسعد ابن جبير كثيراً بما شاهده وعبر عن ذلك قائلاً: «وكان هذا اليوم من الأيام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن». وبسبب حسن استقبال الأمير الأيوبي في مكة كرم أميرها مكثر بخلعة مذهبة سعد بها كثيراً وطاف بها في جنبات مكة. كذلك دوّن ابن جبير مظاهر ختم القرآن الكريم في كل وتر من الليالي العشر الأواخر في رمضان تحرياً لليلة القدر، حيث كان أبناء مكة من الصبية يتنافسون في ختمه والاحتفال بذلك بإيقاد الشموع والثريات وتقديم الطعام. ومما رصده ابن جبير إمامة وخطابة بعض الصبيان الذين حصلوا مقداراً من العلم، ففي ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من العلماء، وبعد الصلاة خطب بالناس واحتفل والده بذلك بدعوة كبار العلماء إلى منزله حيث قدم لهم الطعام والحلوى ابتهاجاً بهذه المناسبة. وتكرر الأمر في ليلة الثالث والعشرين، وفعل مثل سابقه غير أن احتفال والده كان أشد بهاءً. أما ليلة الخامس والعشرون، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي الذي قدم ولده الصغير، واحتفل بذلك بإعداد أنواع الطعام والشراب في شكل مبالغ فيه يخلب اللب من كثرة الأنواع وطريقة صفها وتقديمها. ثم تحدث ابن جبير عن ختم القرآن الكريم في المسجد الحرام ليلة السابع والعشرين بوصفها ليلة استثنائية ومباركة فقال: «وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم؟ وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم، ويجري استعداد أهل مكة لتلك الليلة قبلها بيومين أو ثلاثة من كثرة الشموع والمبالغة في زينة المسجد الحرام حتى كان المقام والحجر من كثرة نور الشموع كأنها دائرة نور ساطع وبمحاذاة ذلك كان صبيان مكة يحدقون بشرفات الحرم وكل منهم معه كرة مشبعة بمادة مشتعلة فيشعلونها ويعلقونها على رؤوس الشرفات ويتسابقون في كثرة الاشتعال، فيخيل للناظر أن النار تنتقل من شرفة إلى أخرى لتوهج الاشتعال واختفاء الصبيان وراء الضوء. ثم يتقدم قاضي مكة ويصلي بالناس فريضة العشاء، وبعدها يقوم إلى التراويح ويبدأ بتلاوة سورة القدر، بعدما يكون أئمة الحرم في الليلة الماضية قد انتهوا في القراءة إليها، وبعدما يصلي ركعتين يسلم تسليمتين ثم يقوم القاضي في الناس خطيباً فيخطب خطبة بليغة، وربما لا يصل صوته إلى كل مَن في الحرم لكثرة الازدحام. وبعدما يفرغ من خطبته يعود الأئمة لاستكمال تراويحهم، والناس نفوسهم استطارت خشوعاً، وأعينهم قد سالت دموعاً، والأنفس قد أشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاء مبشراً بمن الله تعالى بالقبول». أما عن القيام ليلة الثامن والعشرين فقد قامت القراءة فيه على الانتقاء من القرآن وفق ما يحلو للإمام، بخاصة الآيات المتضمنة التذكير والتحذير والتبشير. وعقب كل ركعتين كان المصلون يطوفون بالبيت، ثم يكملون الصلاة أملاً في نيل الثواب العظيم. ويصف ابن جبير أجواء ليلة التاسع والعشرين منه، بكثرة إيقاد الشموع والإكثار من الزينة ويختم سائر أئمة الحرم القرآن، وبعد الختمة تكون هناك خطبة وبعدها ينفض الجمع، ويتخاطف العوام شمع المسجد تبركاً به» ابن جبير يصف عيد الفطر السعيد في مكة: ووصف ابن جبير رؤية هلال شهر شوال بعد أن شهد أيام وليالي شهر رمضان المبارك في مكة المكرمة، فقال: «وما إن ثبتت رؤية هلال شوال حتى أوقدت أعالي المآذن من الأربع جهات في الحرم وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس وأقام المؤذن ليلته في أعلى سطح قبة زمزم مهللاً ومكبراً وحامداً، وفي الصباح أقيمت صلاة العيد في المسجد الحرام بمكة المكرمة، وبكر الناس بالحضور، لابسين أثواب العيد، وبعد فراغ الخطبة أقبل بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافير والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم من فضله وبادروا إلى البيت الكريم فدخلوا عليه بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجاً فوجاً فكان مشهداً عظيما وجمعاً بفضل الله تعالى مرحوماً، وكانت آخر مظاهر الاحتفال بمقدم أول أيام عيد الفطر، وبعد انتشار الناس من المصلى وقضاء سُنة السلام بعضهم على بعض انصرفوا متفرقين لأغراض شتي ومقاصد متنوعة. وختاماً: لم يفت ابن جبير أن يختم تصويره ووصفه الفريد لاجتهاد عمار بيت الله الحرام في العبادة وحضور ختم كتاب الله تعالى في تلك السنة الموغلة في التاريخ، بدعاء مخبت مؤثر جاء فيه: «وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنَّا بسلام، جعلنا الله ممن طُهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنيفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمداً يحق هذه النعمة وشكراً، وجعلها للمعاد ذخراً، ووفانا عليها ثواباً من لديه وأجراً يُرجى بفضله وكرمه، إنه لا يضيع لديه أيام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطراً، إنه الحنَّان المنَّان لا رب سواه» هكذا، انتهى وصف ابن جبير لليالي رمضان والعيد كما شاهدها في مكة المكرمة ومن خلالها ندرك دقة وصف ابن جبير وروعته في شكل يصدق عليه وصف أمير رحالة عصره بلا منازع. * عضو اتحاد كتاب مصر