
(كلما برى القلم طارت من رأسه فراشة) ربما أستطيع أن اتخذ من هذه الشذرة التي تفتتح الباقة الأولى من الكتاب رفيف اجنحة الفراشات الشعرية الجديدة للشاعر بلال المصري ، حيث اللغة الشفافة الزاخرة بالصور في تداع للكلمات مثل جدول ماء عذب يتدفق بعفوية مذهلة ، فتتداخل الصور وتنداح منفلتة في سيرورة خلاقة لا تنتهي بالقراءة ، فالقاريء ومن واقع تجربتي مع هذه المجموعة من النصوص الشعرية يجد ذاته حاضرة في تشعب وتشظ لصور شعرية متتالية فيما يشبه تدوين الأنغام على نوتة موسيقية. رأس القلم وراس الشاعر هناك تداخل منذ العنوان بين رأس الشاعر الخالق وراس القلم الذي تتناسل منه الحروف بفعل ارادته وشغفه في الكتابة. فالرأس التي تُسحق بحجر وكأنها لتقدح شرارة الخلق وراس القلم التي تُطيٍّر الفراشات تتقاطع في مجمل النصوص خفيّة مرة وبارزة مرة أخرى. فالجسد كما الأشياء وحتى الحب تضيء وتختفي أمام دهشة القاريء وفي مفاجآت متتالية : «الحب مثل البرق يضيء كل شيء فيك للحظة ثم يعم الظلام».ص17. كما يساهم الحس الوجودي الذي يعذبه الخلق كما الواقع المرير الذي يرهق الجسد فيدفع بأطرافه إلى ملاحقة أي وهم آمل او بصيص نور رجاء في سلام وحتى القصة ما هي إلا «الكلمات تبتعد مثل دخان حرائق تنطفيء لنعود أنا وأنت غريبين».ص19. بسلاسة وشفافية ابدع الشاعر في توظيف مخزونه من فن السرد بشاعرية لتعزيز نسيج القصائد ورفدها بصور لا تكاد تلامس الواقع حتى ترفرف محلقة في تهويمات سوريالية تهز غفوة محتملة لقاريء يحلق بأجنحة الكلمات. ماذا فعلت بك الكمنجات ؟ أي الموسيقى المنبعثة من الروح والتي تتجاوز الواقع وتسمو بالتجربة إلى معاناة تصل حد الذوبان والتلاشي . «اغرق فيك أنت مثل الموت لا أعرف ماذا سيحصل لي بعدك». يلي هذا التلاشي وكأن يد الغريق تحاول التعلق بالمسافة لتنجو «والآن وقد نجونا وشفيت منك وشفيت مني لا زلنا نرقص تنحني نحو الأرض واقفز إلى الأعلى». (الخاتم) (رقص) (ساحرة ) ثلاث دفقات شعرية يربطها خيط الخلق السحري للصور التي تأخذنا بموسيقاها نحو الاعيب سحرية مذهلة وكأننا على ارجوحة تحت تعريشة من الكلمات المتداخلة التي يصوغ منها الشاعر الريح التي تهزنا وتؤرجح روحنا في دهشة عجائبية حيث يتداخل السرد بشاعريته والشعر بسرده الرهيف لتكوين يتجدد مع تنقلنا بين السطور والصفحات. (المعرفة قاسية) والحكمة تراكم لمعرفة تغوص في زمن يبدو لا متناه فما تكاد الكلمات تدحرجنا معها عبر نفق الزمن حتى نفاجأ بعوالم أخرى جديدة وعصية الاكتشاف «وعما قليل يفرغ ابريق الكلام لتنهض من جسدك تصير فراشة». ثم تتعقد الصورة وتتكاثر الاجنحة حتى يصبح التحليق عذابا بعد أن كان عذبا ،هذه هي ضريبة المعرفة القاسية. والعذاب والنعيم الذي لابد منهما لتتحقق الحرية . في( يعلمون) و (كن ودودا )و (كن رحيما) ما يشبه صدى حكمة وصوت المسيح في مناجاة الذات والآخر لفتح ابواب الإنسانية للفقراء والجوعى والمرضى وضحايا الحروب الغربة والاغتراب والتيه في المسالك العصية والتي نصادفها منذ أولى الصور الشعرية تؤكدها هنا وتكثف حضورها (غربة) (قوافل) (الطريق) (ترحال) و(الغريب) «أسمع كلمات كأني غريب عنها مثل بدوي يقف أمام البحر ويسأل اين هو الماء».ص42. في منتصف الديوان لابد من وقفة مع نص (أمي) وهي الأيقونة ذات الرمزية العميقة الدلالات ، كثف فيها الشاعر ثمرة تجربته منذ الطفولة الأولى والخروج من الغابة إلى وصيتها الأخيرة ، بفعل شجاع ومتميز : «و امي هي المرأة التي رمت النهر إلى البحر واوصته بأن لا يصير مالحا مهما حصل». في (حاجب الكلام) نلتقي بكل الرموز مجتمعة وفاعلة في حركة تصاعدية دراماتيكية فأشجار الغابة التي ترافق القاريء منذ بداية الكتاب والأطفال ورمزيتهم وتنامي الزمن ممثلا في تقدمهم في العمر والأزهار والليل تجعل من متعة القراءة شغفا إلى ما سيتبع من نصوص ومن مفاجأة لاكتشاف دهشة و لاستكشاف القادم من القصائد . ففي (سحابة) نقرا ذات التحولات التي ادخلنا فيها الشاعر منذ البداية، وكأنه يدعونا إلى مهرجان تتبادل في الكائنات الأدوار «حولتني لشجرة يابسة... واليوم صار اخي سحابة بيضاء وصديقي نمرا يبحث عن اهله بين الغزلان». يرشح من نص (مقبرة) نوستالجيا الطفولة والزمن الجميل الذي يولد من رماد الأشياء وذاكرة الكلمات البعيدة القريبة في (كهف البرق) ذات الترقب المريب الذي لا يسفر عن نهاية ثابتة فكل النهايات مفتوحة على بدايات جديدة ومتجددة كماء النهر أو كصور تولدها المرايا المتعاكسة «إنها مجرد قطعة زجاج حادة إذا حدقت فيها ترى نفسك» وهي موسيقى تشبه انكسار الصحن وهي أيضا مقام للوحدة والعزف المنفرد كل شيء في الكون له قلب و»نحن جميعا فؤاد الحياة» نبرة عالية من الأمل والتفاؤل بعد رحلة الشاعر في جحيم الكلمة والواقع ومحاولات الخروج من رماد غابات الواقع في تحولات جديدة عصية على التلاشي ولكن مع بداية إلفته للحياة في (يألف الحياة) .يكاد ينهار في نعاس «أنا على وشك أن اغفو جالسا على الخراب». . في الباقة التالية «هذا ليس قلبك إنه أيضا معطفي» . نحس بقشعريرة وتوجس لذيذ من رعشة الحب التي ما انفكت تلازم الشاعر حتى في احلك اوقاته وحتى في توحده بمن يحب بحيث لايرى أحدهما الكون إلا بحضور الآخر «لن تشبع من النظر إليه دوني لا تسالني من أكون أنا مشغول بقلبك». وفي الموتيفات المتتالية : الشجر والحجر والنجوم والفراشة وبين (الصمت) و(المقهى) يختفي ويخرج صوت الآخر وصورته في تحولات كما في القصائد السابقة. (تتظاهر بأنك لا تراني وأنا الذي أراك في كل شيء) ترويسة تشبه مقدمة صوفية في الرؤية لدهشة قادمة لقد وفق الشاعر في توظيف المفردات الصوفية والخيال بمنحهما ابعادا وجودية دراماتيكية تتراوح بين الاتصال والانفصال والتلاشي ثم الانبعاث في دورة لانهائية. كل ذلك في بوح شاعري ، وبلغة ذات جرس أخاذ ودلالات متعددة ، حتى تكاد تتسرب بين يدي القاريء كما الماء ففي (تراب بين يدي الحبيب) «هناك فناء والجميع سيختفي و كل هذا في سبيل ان يكون الفراغ مرئيا بما يكفي لكي اقول إن اللوحة اكتملت». وتثري النصوص القصيرة جدا القصائد بحضور مبهر من الصور التي نحس بصوتها المتصاعد نحو العوالم التي اراد لنا الشاعر ارتيادها مولدا المدهش من العادي ومكثفا جمله الشعرية في مقطوعات قصيرة من (الحيرة )ص80 إلى (أخي) ص 92 «ياقبيلتي نامت الخيام ونحن في العراء تذكرنا أن مأوى العاشقين الغرام». كما سبق لنا الإشارة إلى ايقونة الأم ورمزيتها تعود الينا بقوة في (أمي )1 و 2 وهي دائما بوصلة لعالم الرحمة ورحمة للأطفال والفقراء ولا تنسى العشاق : «الذين اقفلت عيونهم على الأماني لم يفتحوها تنعموا بالعتمة للأبد وما جاعوا ولا عطشوا صاروا قصصا في الكتب». إنه تدفق شاعرية السرد ما يجعل من نصوص الكتاب تبلغ هذه الدرجة من النقاء الشعري الذي يلامس التأمل الفلسفي العميق في الحياة والطبيعة بكل تفاصيلهما : «هذا الشعر وحش لطيف سيظل ينهش روحك وما من فراق اسخر من العدم اركض خلفه ارشقه». (نقطة). حتى البحر في تحولات امواجه لص يسرق من السماء زرقتها هكذا البحر موجة بعد موجة سرق من السماء زرقتها ( لص). في الباقة التالية ورود بألوان الوجد الصوفي كرذاذ من كلمات سبق إليها متصوفة الشعر وشعراء الصوفية حيث الانخطاف والذهول والطواف والسعي إلى البوح من خلال الصور المتلاحقة عن وجد عميق الدلالة رهيف الصور كما في (حتى تصيري حدائق) : «اجلس قرب نفسي ادور حولها كشيخ صوفي كمروحة مستهلكة...». ولان العشق لدى بلال مفتوح على آفاق ابعد من الواقع الحسي فحتى الكلمات التي لا جذور لها في تجربته مثل تلك التي لاتحرق ولا «تطعن الصمت حتى الموت هي مجرد كلمات». ومن وداعه للكلمات التي هي مجرد كلمات إلى دخوله في عالم ذاته رحلة يخرج منها القاريء محملا بفيض وزخم من الصور المتتالية بما يشبه المنولوج الداخلي للاوعي في تدفق زاخر بمفردات تتكرر بدلالات مختلفة وتتلون بعمق وطلاوة توظيفها التي يجيد الشاعر التلاعب به ومنح القاريء مفاتيحا كلما تاه عن السبيل. وقصيدة (اهرب جسدي إليك خلسة) بمقاطعها الثلاثة عشر اشبه بموسيقى الغرفة يستهل كل مقطع بلازمة «لأنك» ثم تنثال الصور لترسم لنا حوارية من جانب صوت الشاعر الذي يقف وحيدا في نهاية القصيدة : « تشعلين النار بعشبي وترحلين». ص114. ومن هذا التداعي في الآخر تنقلنا النصوص التالية إلى شفافية الذات امام المخاطَب الذي تحاوره القصائد وتناجيه الكلمات بروح ترافق القاريء منذ بداية الكتاب ، ففي «لا تسرق النظر» : «اغمض عينيك لترى كم نحن قريبون ألمس النجوم بينما اصابعي مثل كلمات تطير من كتاب». ص115. ومع توالي عدد من الشذرات القصيرة والكثيفة الصور عميقة الدلالات نصل إلى ما يشبه الختم الذي يضعه الشاعر علامة ومفتاحا للقاريء قبل الرحلة الأخيرة في الكتاب : « جلس الوقت على الكرسي الجبل ينظر من بعيد بحنان للمتسلقين كان السقوط أغنية عاشق قلبه فأس تعلق بحب شجرة ضمها حتى صارت الشجرة ربابة «. في الباقة الأخيرة تتضح اهداف الرسم بالكلمات ويأخذنا الشاعر إلى المنطقة المظلمة حيث يَرى ويُرى بعد عناء سفر بين التحليق والغوص في الأعماق ، وفي « تصاعد الياسمين كالرصاص» وهي أطول القصائد واكثرها من حيث متواليات الصور الشعرية وديناميكية التحولات فهي تجمع في حس شاعري مذهل بين المتخيّل والواقعي ، بين الرغبة والثورة والتمرد ، هذا النص اشبه بعاصفة من الصور التي تقذف بشظايا ملتهبة لتعبر زمن لا متناه « على فرس سوداء ابتعدت الشمس واتسع الكون كغشاء عذراء «. فكل عناصر الطبيعة تعمل بهمة في هذا النص وما النعاس سوى استراحة عابرة لمحارب : « إهدأ ايها المطر لتتمكن هذه الصواعق من اجتياز النهر فأصابع التراب نسيت الإشارة». ص130 وتكاد (لماذا) الشاعر مع اقتراب نهاية النص ترسل لنا صوتا للتمرد وتحريضا على التساؤل عن الذين يحملون معهم السلاسل الحديدية قيودا بينما ترن اساور الماء خبزا عصيا عليهم « لهفتهم إلى الخبز هذا التائه الأبدي». ص145. « حول مروحة الكلام « نص رشيق عذب يدور بنا كموسيقى خفيفة ورقصة شاعرية حول الكلمات ، يستحق بعدها الشاعر غفوة على غيمتة بعد ان شرب عطشنا من سلسبيل عطائها، وبعد أن سافر القاريء على اجنحتها الملونة بالحلم والعشق والحكمة. *شاعر وكاتب من البحرين كان رئيسًا لأسرة الأدباء والكتاب، ومديرًا لإدارة الثقافة والفنون – وزارة الإعلام والثقافة في البحرين. نشر العديد من النصوص في مختلف المجلات الثقافيّة العربيّة .