حـوار ـ أحمد الغـر تعدّ تجربة الفنان فهد خليف من أبرز التجارب التشكيلية الجميلة والمميزة في المملكة، حيث استطاع بفنه الجميل وأسلوبه المميز أن يبدع أعمالًا لافتة عديدة في مسيرته الفنية، يتميز خليف بفرشاة دقيقة ومتأنية حيث يوازن من خلالها تكويناته الشكلية ويحافظ على فكرته بأسلوب فني مُحكَم في اللون والخط والرمز، وهو ما يعكس ذكاءه وغزارة إنتاجه المدروس بحكمة ودراية. تتضمن مسيرته عطاءً فنيًا كبيرًا يمثل إضافة مهمة للحركة الفنية في المملكة، وقد نال الكثير من الجوائز والتكريمات، وله 3 لوحات معروضة داخل أهم متاحف روسيا بناءً على طلب وزارة الثقافة الروسية، كما أنه حاصل على أفضل عمل فني لعام 2012م من المجلس الثقافي البريطاني، وقد تُوّجت جهوده من خلال عرض مجموعـة كبيرة من أعماله في الدوائر الحكومية والمنشآت الخاصة بالمملكة، منها جدارية كبيرة في مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة، وأخرى في مدينة الملك عبدالله الرياضية (ملعب الجوهرة). التقيناه ضمن “مرسم اليمامة” ودار بيننا هذا الحوار. لنعد قليلا للبدايات؛ متى سافر اللون لأول مرة على فرشاة الفنان “فهد خليف” عبر مجهول اللوحة ليقطف الفكرة والدهشة بطعم التشكيل؟ أتجاوز كثيرًا من الممارسات الفنية التي كنت أمارسها والتي تقبع تحت سلطة مفهوم المحاكاة التشبيهية إلى مراحل وممارسات تتصدر المشهد على مستوى الإحساس والشعور والشغف، وأقفز إلى تحويل الأفكار والصور الحبيسة بالذات والمخيلة من مخزون بصري إلى نصوص ورموز بصرية مبتكرة تتشكل وتتلون بفرادة ذاتية ذات دلالات سيكولوجية، تخلو من ضواغط المؤثرات الخارجية وضواغط السوق إلى تأصيل المرجعية الثقافية كخبرة مكتسبة، حينها يتآزر الإبداع والابتكار معًا، وذلك لصنع متخيلي البصري على سطح اللوحة، وحتى أتمكن من صناعة الدهشة وتحطيم الشكل المشاهد وإعادة صياغته لتشكيل ذاكرة جديدة للمكان، وأعتقد أن اللحظة التي سافرت باللون على سطح اللوحة كعملية إبداع حقيقية عندما أدركت أن الفن هو تعبير ذاتي لنتاج مجموعة من الخبرات الجمالية المتعددة المصادر، حيث أن المبدأ في الفن هو كيف ترى وليس ماذا ترى. المشاهد لأعمالك الفنية يجد أن مفردات المكون العمراني لها حضور كبير في معظمها، فما هو تأثير البيئة المحيطة بك على إنتاجك الفني؟، وما هي العوامل التي تؤثر في اختيارك للمفردات التي تكوّن اللوحة؟ حضور تلك المشهديات البنائية في نسق ذي امتداد لا نهائي أشبه ببناء فسيفسائي نظامه الاختلاف وبناء الدهشة ليكوّن مفهوم ذاكرة المكان بالنسبة لي، أجزم أن ممارساتي قد تأثرت بالمحيط الجغرافي والطبوغرافي لتوليد الأفكار والصور المحملة بعلاقات متأصلة بين ذاتي كفنان ومجمل العناصر الأساسية للحياة، لذا من الضروري ادارك أن الفن لا ينشأ فقط بالرؤية بالعين بل بالتماس مع القلب والروح، وأنا منذ الطفولة يجذبني كل ماله علاقة بالشكل واللون، والضوء والظل، والغائر والبارز، أخذت أتلمس كل تلك العناصر الموجودة على المسطحات الحجرية والمكملات الخشبية والحوائط المحملة بالإرث الانساني العتيق، أتلمس وأنهل من جمالياتها شكلاً ومضمونًا، وأتساءل على سر جاذبيتها وسيادة كل مفردة على المشهد كقيمة جمالية متفردة. تستند على تراثك الجنوبي والعمارة الشعبية من أجل إيصال رسالتك الفنية بأسلوب عصري حديث يخاطب العالم أجمع، حدثنا قليلًا عن ذلك في ضوء معرضك (نقش ورقش)؟ أحاول جاهدًا أن أستحضر تلك اللحظات الهاربة والتي تتواءم بين شغفي المعرفي وبين الجمال الزخرفي الفاتن والمتأصل على سطح تلك المكملات الخشبية والحوائط وعلاقته بالعمارة الشعبية، أعتمد على وحدة الرمز المستقل غير المترابط حيث أن الرمزية في الفن الشعبي تخضع لمنطق بنائي تركيبي، وهو ما أحالني قصرًا إلى أن أقرأ الموروث من خلالها، بحيث أكتب تاريخي الخاص داخل هذا التراث مستعينًا بالشكل واللون كأسلوب حداثي معاصر، وقد حاولت أن أبتكر علاقاتي الخاصة بالتراث وأن أرتبط بالعناصر الثابتة والمتجددة في ضوء التحولات الزمانية والمكانية للمشهد البصري القائم على الإرث المتصل من الأجداد للأحفاد، حررت الخطوط والزوايا، وحاورت الألوان وجنستها، جاورت المتضادات وآلفت المتناقضات، وجعلت الساكن متحرك والمتحرك أكثر حركة وديناميكية، فأقمت معرضًا شخصيًا بعنوان (نقش ورقش) حمل تلك التجربة الغنية بالزخارف الشعبية في قالب عصري يخاطب العالم أجمع. تحسن استخدام الأحرف العربية لتخط أعمالاً فنية غايةً في الدقة والإبداع، حيث تحركها وتطوعها في تناغم وإيقاع، حدثنا عن علاقتك بالحرف العربي في أعمالك الفنية؟ الخط العربي فن قائم بذاته له جسد وروح وصوت وهوية ويعكس ثراء الثقافة العربية، كما تتميز الكتابة العربية بكونها متصلة ولينة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة، فمن هنا أعمد دائما إلى استخدامه، وكي لا أقع في سياق النصوص السردية أحاول أن أقمع اللغة حتى لا تسقط عملية المشاهدة، فجميع أعمالي عبارة عن أحرف متناثرة متداخلة متشابكة ذات تراكيب آسرة غير مقروءة ولا تكوّن في تركيبها نصًا إنشائيًا أو جملةً مقروءة، لأن أي لغة يتم قراءتها تسقط عملية المشاهدة فيصبح الشكل بلا قيمة، ويتحول المشهد البصري إلى نص، ولبناء اللوحة الحروفية لمنتجي البصري أعتمد على 3 جماليات؛ جمال خط حرف الثُلث وجمال التكوين وجمال اللون. لديك ثراء لوني متوازن في كل لوحة تبدعها، وثمة تجانس إيقاعي بين الألوان مما يزيد من حيوية العمل، كيف تصل إلى هذا التوازن اللوني في أعمالك؟ اللون في اللوحة هو الذي يثري العمل الفني بطاقات تعبيرية ويؤسس مفاهيم دلالية، واللون له طاقة عالية وأثر بالغ على سلوك الانسان، واللون بالنسبة لي هو حالة ذات دلالات تتغير وتتبدل من حين لآخر، ضابطها المعرفة ونقاءها الخبرة، وكما قال بيكاسو فإن “الألوان مثل الملامح تتبع تغيرات المشاعر”. الناقدة “ليلى جوهر” قالت يومًا عن إبداعك: “يوازن من خلاله تكويناته الشكلية ليحافظ على فكرته مقتنصًا اللحظة الأخيرة، فحين يشتغل يحبذ الاستفراد بمكونات عمله، مواصلًا الصعود بفكرته إلى أن تشع بمنجزه جماليات التكوين التعبيري وتغمر كل مساحات اللوحة”، هذا يأخذنا إلى سؤالين؛ أولهما: إلى أي مدرسة فنية تنتمي؟ من سلطة الحداثة تحويل الحدث من الحالة البصرية الواقعية الى حالة الشعور والتي تؤسس للاغتراب، والفن الحديث أفسح المجال لتفكيك وانصهار المدارس التي كانت سلطوية وتبنى على منهجية منظمة لا تقبل التغيير أو الخروج عن قواعدها مما أدى إلى تداخل وانصهار الأساليب مع بعضها، أنا أنتمي إلى المدرسة التعبيرية الرمزية والتي لها دور فاعل في الانفكاك والتحرر من سلطة المدارس، ولا شك أن هذا يمنح الفنان مساحة شاسعة للتعبير عما يريده ويلج بخاطره، وأيضا تسمح بأن تجمع المتناقضات في عمل فني واحد. وثانيهما؛ كيف تُولد اللوحة لديك وكم تستغرق حتى ترى النور؟ العمل الفني ليس مجرد عناصر وأشكال وخطوط ومساحات وكتلة وتكوين، ولكنه هو ذلك السر الخفي الذي يسكن الفنان والغيب الذي قد لا يكتشفه الفنان نفسه، هي أسراره وهمسات روحه وصوت ضميره وتطلعات نفسه، وهو النتاج الذي يعبر عن العاطفة المنتجة نحو الوجود في تعبيرات منتظمة مقصودة لغايةً معينة، لذا فإن أعمالي تستغرق وقتًا طويلًا حتى ترى النور وليست وليدة اللحظة كإنشاء وبناء. ما سر حضور الخيل العربي ضمن عناصر لوحاتك الفنية؟ أسعى جاهدًا في جميع أعمالي الخاصة لتقديم قيمًا فنية وجمالية متفردة لإيصال رسالتي ورؤيتي الخاصة، والخيل العربي قيمة جمالية متأصلة، وأن تكون فنانًا يعني أن تبتكر جسدًا معاصرًا يتآلف مع الجمال الذي هو ضرب من ضروب اللغة الرمزية وهو شكل من أشكال التداولية، وقد أعدت تشكيل الخيل برؤيتي الخاصة والتي تتآزر وتتجانس شكلًا وشعورًا كلغة بصرية آسرة هدفها صناعة الدهشة من خلال تحطيم الشكل المشاهد وإعادة صياغته بما أمتلكه من معرفة وخبرة. قلت يومًا إن “الفن التشكيلي لغة بصرية راقية تخاطب الإحساس يفهمها الجميع”، هل هذا يعني أنك ضد من يقومون بشرح لوحاتهم خلال المعارض؟ الجمال هو ضرب من ضروب اللغة الرمزية وهو دعوة الآخرين للمشاركة بالإحساس؛ لذلك فتوجيه وحصر المتلقي في الشرح والتفسير والتوضيح تؤطر فكره وتحبس إحساسه في إطار ضيق لا يستطيع تجاوزه أو الانفكاك من سلطته، لذلك نعمد نحن الفنانون إلى وضع عنوان عريض للمعرض للتحليق بفكر المتلقي وإحساسه بمساحات لا حدود لها في زمن يقبع الفن فيه بين السيربنطيقا والهيرومنطيقيا؛ أي بين علم الجمال وعلم التأويل. كونك قد عملت مشرفًا ورئيسًا لقسم التربية الفنية بمكتب التعليم بشمال جدة، هل الفن موهبة أم يحتاج إلى دراسة وتأهيل؟ الفن يحلق عاليًا بجناحين؛ أحدهما يرفرف بجناح المعرفة والخبرة والتقنية ذات المهارات المصقولة ضمن تطورات الذائقة الفنية، والجناح الآخر يرفرف بالموهبة المتأصلة بذاته، والموهوب هو الفرد الذي يملك استعدادًا فطريًا تصقله البيئة الملائمة، فالدراسة والتأهيل الأكاديمي ضرورة لازمة لصناعة الفنان، والذي بدوره يبني قاعدة مهمة للانطلاق نحو عوالم الفن الحقيقية. هل ترى أن النقد التشكيلي في المملكة يوازي ويتفاعل مع المنتج الإبداعي الفني الذي يبدعه فنانو المملكة؟ أعتقد بأن الممارسات الفنية بالمملكة تسير بوتيرة متسارعة وتتجاوز كثيرًا من الدول في فرادتها وتطورها، لكن التشكيل لا يتآزر جنبًا لجنب مع عملية النقد التي لا تكاد أن تتجاوز النقد الانطباعي، ولتعزيز جودة المحتوى الثقافي البصري يجيب علينا النظر إلى الجوانب الأربع؛ الناقد والمبدع وذائقة المجتمع وصالات العرض، والتي يجب أن تتظافر مع بعضها البعض لتنتج بيئة صحية محفزة لعملية النقد، كما أن الناقد يجب عليه التخلص من المجاملات الاجتماعية، ولابد أن يطور نفسه وأن تكون لغته قريبة من لغة المجتمع، وأنا لا زلت متفائلًا وواثقًا بأن الفجوة ستزول جراء هذا الحراك الثقافي المتسارع الذي تشهده المملكة. ما هي مشاريعك الفنية القادمة؟ أقوم حالياً بالتجهيز لإقامة معرضي الشخصي التاسع عشر.