يتميز الشعر الجاهلي بقدرته على التأثير من خلال أسلوبه الخطابي الذي يمزج بين الأوامر والتقريرات، بحيث لا يكون مجرد تصوير بلاغي، بل خطابًا موجّهًا يحمل بعدًا إقناعيًا واضحًا. في معلقة عمرو بن كلثوم، نجد هذا الاستخدام يتجلى في توظيف الأفعال الكلامية بشكل يخدم غرض الشاعر الأساسي في الفخر والاعتزاز بقبيلته، حيث يستهل قصيدته بدعوة صاخبة تنبض بالحياة حين يقول: ,ألا هُبّي بصحنكِ فاصبحينا ولا تُبقي خمور الأندرينا,. في هذا البيت، تتلاحق الأوامر بين النهوض والشرب وعدم الإبقاء، مما يخلق جوًا احتفاليًا يوحي بأن المتلقي مدعو للدخول في عالم المعلقة والاستعداد لما سيأتي بعدها من اعتداد بالنفس. ولكن هذا التوجيه السريع لا يقف عند كونه مجرد أمر لحظي، بل يُمهّد لانتقال مدروس إلى التقرير، حيث يتحول الشاعر من التحفيز إلى إثبات تفوق قومه بقوله: ,ومُدِّي بصرَكِ في الملوكِ فإنّنا نَسودُهمُ إنْ دخلوا حيثُ دخلنا,. يبدأ هذا البيت بفعل أمر آخر ,مدّي، لكنه يأتي كمقدمة لحقيقة تقريرية مؤكدة: السيادة المطلقة التي يدّعيها الشاعر. يتكرر هذا النمط في الأبيات التالية حيث يقول: إذا بلغَ الفطامَ لنا صبيٌّ تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا، إذا بلغَ الرجالُ لنا حُدُودًا تَخُرُّ لهُ الملوكُ مَذْعورِينا، فنجد أن البناء اللغوي يعتمد على توكيدات متتالية ترسّخ صورة القبيلة القوية، وكأن الشاعر يضع أمام المتلقي سلسلة من الحقائق التي لا يمكن التشكيك فيها. هذا الأسلوب لا يتوقف عند حد التقرير فحسب، بل يتصاعد ليصل إلى ذروته في قوله: نَشُقُّ بها رؤوسَ القَومِ شَقًّا ونُشْرِبُها إذا قَحطَتْ دِمَانَا، حيث تصبح الأفعال أكثر عنفوانًا، وتعكس طبيعة قومه الذين لا يترددون في القتال. اللافت في بناء هذه الأبيات أن الشاعر لا يفصل بين الطلب والتقرير، بل يجمع بينهما في نسيج لغوي يجعل المتلقي يتنقل بين التحفيز والتأكيد دون أن يشعر بأي انقطاع في السياق. وهذا ما يجعل المعلقة نموذجًا فريدًا في الخطاب الجاهلي، حيث تتحول اللغة من مجرد أداة تعبيرية إلى وسيلة إقناع متكاملة تستند إلى التدرج بين الأمر والتقرير لإثبات التفوق. المراجع التي تم الاطلاع عليها: 1. أفعال الكلام في الشعر الجاهلي: دراسة في نصوص الحوادث, داليا أحمد عكاب , دار دجلة ناشرون وموزعون , 2018 2. التأصيل لأفعال الكلام في التراث العربي القديم حليمة بو الريش. *باحثة في اللسانيات التداولية