في « فراغ مكتظ» لإبراهيم مضواح ..

التناقضات في أوضح صورها.

اتحف القاص إبراهيم مضواح محبيه ومتابعيه بإصدار عنْونه «فراغ مكتظ» صادر عن دار أدب للنشر والتوزيع، العنوان الذي يحمل المفارقة بين فراغ بمعناه المفهوم، ومكتظ وبذات المعنى المعروف، مما أوجد ميلًا الى قراءة الإصدار، ومحاولة استكشاف ماهية مثل هذه العناوين ذات المفارقة الجلية، ومدى ان تكون سمة من سمات الرواية. قدمت الرواية نفسها في 174 صفحة من الحجم المتوسط، متعددة الشخصيات وذات رؤى مختلفة، وكان ان وفّر مضواح لشخصيات روايته مساحة رحبة وحرة، ليتجلى لنا عملاً أدبياً مبنياً على الصراعات الإيديولوجية، والمجادلات الفكرية، والتناقضات التي يحملها من سخر نفسه شعلة للفكر وإصلاح المجتمع، وليس من المحاباة القول أن مضواح كان عادلًا في تعرية شخصياته. يذكر مضواح» لكل فريق سلوكياته التي تصبح شائنة على نحوٍ لا يُحتمل حين تُعاكس الادعاءات، والأيديولوجيا التي يتبناها كلُّ فريق، فلا غرابة أن يصطنع الإسلاميون الأتباعَ والمريدين، ويعمدون إلى الحشد، لأن طبيعة الأيديولوجيا تقوم على ذلك، ولكن صناعة الأتباع والمريدين وصمة مرفوضة من الليبرالي، لأن الليبرالية قائمة على تقديس حرية الفرد واستقلاليته، ومن هنا جاءت الرواية لتسلط الضوء على التناقضات بين ادعاءات الفريقين وواقعهما». وأبدى مضواح رأيه حول تناول الاعمال الأدبية لمواضيع فكرية، ومدى الأثر الذي تحدثه، كون فراغ مكتظ ألبست جوانب فكرية نقطة ارتكاز في الرواية «ليس من شأن الأعمال الأدبية معالجة المشكلات الفكرية، ولا طرح الحلول للقضايا الاجتماعية، غير أنها تطرح الأسئلة الكاشفة، وتسلِّط الأضواء على زوايا من الحياة الاجتماعية والفكرية بتوظيف شخصيات تمثل نماذج واقعية لهذه المشكلات؛ غير أن الإجابة على سؤالٍ مِن قَبيل: الى أي مدى وصل تأثير الأعمال الأدبية في طرح الموضوعات الفكرية؟ تتطلَّبُ دراسة استقصائية، وهذا ما يُبتغى لدى الدارسين، والنقاد، لا لدى المبدعين». رواية فراغ مكتظ حملت ومضات خاطفة، تعمد الروائي إبراهيم مضواح ايرادها، وتتمحور حول الخلاف الناشيء بين المؤلفين و الناشرين، عبّر عنها مضواح بقوله «هي تحيل إلى مشكلة قديمة متجددة، يكون المؤلفُ - غالبًا - ضحيتَها، حين يدفعه الطموح إلى رؤية منجزه الأدبي ماثلاً أمام القراء، فيقع في براثن تجار النشر، وحتى لو لم يكن المؤلف متأكدًا من الغبن فإن الشكَّ يساوره، ثم لا يُصرِّح حياءً، أو تغافلاً، أو رضًا بالممكن» منبهًا للسلامة من الوقوع في التعميم- إن الأمر لا ينطبق على كل الناشرين، وفي تجربتي عددٌ من الناشرين تعاملوا مع كتبي بإنصاف يستحق الشكر والتقدير. وحول إن كان مثل هذه الومضات السريعة في ثنايا العمل تمهيدًا لفكرة مشروع أدبي قادم، أفاد مضواح «لم أفكر في ذلك، وأظنُّه من الصعب أن تكون هذه الثيمة منفردةً محورًا لرواية، لكونها قضية نخبوية، ولكنها يمكن أن تكون حدثًا عارضًا في رواية؛ يلامسها الكاتب ضمن قضايا ومشكلات أخرى». القرية والحنين اليها اثبتت وجودها في «فراغ مكتظ» لا سيما و سبق للقرية ان انقادت لرغبة مضواح، فحضرت في اعمال (اسأل القرية، وعتق، وجبل حالية) الرغبة التي أرجعها مضواح إلى تكوينه القروي الخالص «والحنين إلى حياة القرية، وملاعب الصبا، ولوفرة التجارب التي يمكن استلهامها من القرية الساكنة في الذاكرة؛ ثم إن القرى التي عهدناها قد اغتالتها المدنية، ووسائل الحياة العصرية، سواء بالزحف عليها ومحو معالمها، أو اغتالتها بانتزاع أهلها من رحابة القرى، إلى زحمة المدن، لتصبح القريةُ قفرًا، لا يعود إليها أبناؤها إلا ليدفنوا في ترابها؛ كما هو الحال في رواية جبل حالية، ولأن مجتمعنا حديثُ عهدٍ بحياة القُرى، فمن الطبيعي أن ترتبط بدايات أكثر شخوص الرواية بالقرية، كما هو حال عمر السورجي في جبل حالية، وسعد الشافي في عتق، وهزاع في فراغ مكتظ. وحول تحويل العمل الادبي الى فيلم، وما تشهده أيامنا هذه من إعلانات للمشاركة في مسابقات، وخشية أن يفقد العمل الادبي النضج الكامل في ظل اللحاق بموعد المسابقة، أفاد مضواح:» لكي يكون العمل أدبيًّا خالصًا يتغيَّا الخلود النسبي الذي يسعى إليه كل أديب، فلا بدَّ أن يكون كُتِبَ بدافعٍ ذاتي إبداعي، وهاجسٍ فنيٍّ خالص، وأن يمتلك زمام الوقت فلا يكون محاصرًا في إطار زمني، وإنما ينتهي منه كاتبه حين يشعرُ - على نحوٍ مؤكد - أنه قال كل ما بوسعه قوله، ثم قد يُكتب له بعد ذلك الخلود أو لا يُكتب، أما العمل الذي يُكتب على حس مسابقة أو موعد فسيكون - غالبًا - ناقصًا فنيًّا حتى لو فاز في مسابقة ما، ولو حقَّق الهدف الآني من كتابته، وكذا الصرعات السريعة والعابرة والضجيج والشهرة الآنية فليست أدلة نجاح ولا خلود، ولكنها استجابة لإيقاع العصر الذي سرعان ما يتجاوز هذه الظواهر العابرة إلى ظواهر عابرة أخرى». وإن كان من عمل يتمنى تحويله إلى فيلم أجاب» أعمالي الثلاثة قابلة لأن يظهر كلٌ منها في شكلٍ سينمائي أو درامي، فرواية جبل حالية تروي إرهاصات موت القرية، ورواية عتق ترتكز على أوهام الفرد، ورواية فراغ مكتظ تُجَسِّدُ صراع أيديولوجيتين، وهذه الثيمات جميعها كتبت في الروايات الثلاث على نحو درامي، قابل للتَّجْسِيد عبر السينما والتلفزيون».