ابتهالات وتواشيح رمضان..

فيض الرجاء وعذوبة المناجاة.

يُعَدّ شهر رمضان المبارك مناسبة خاصة تتجلى فيها الروحانيات وتتعمق فيها مشاعر الإيمان لدى المسلمين حول العالم، ومن أبرز مظاهر هذا الشهر الفضيل في العالم العربي؛ الابتهالات والتواشيح الدينية التي تلامس القلوب وتُحيي النفوس، حيث أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة السمعية والوجدانية للمجتمعات الإسلامية العربية. تاريخ طويل يعدُّ الإنشاد الديني فنًّا روحانيًا يُؤدَّى بصيغٍ وأشكالٍ متعددة، تتنوع بين الابتهالات والتواشيح، والمدائح النبوية، والذكر الجماعي، والتعزيات، يهدف الإنشاد الديني إلى التعبير عن المشاعر الإيمانية والتقرب إلى الله عبر الكلمة الموزونة العذبة، ويبرز الابتهال والتوشيح كنوعين أساسيين يتميزان بجمال الأداء وعمق المعاني، الابتهالات هي أدعية وتضرعات دينية تُؤدَّى بصوت منفرد بأسلوب تعبيري مؤثر، يعكس خشوع المنشد وانكساره بين يدي الله، وغالبًا ما يبدأ بأسلوب هادئ ثم يتصاعد تدريجيًا ليبلغ ذروة التأثير العاطفي. أما التواشيح، فهي شكل من أشكال الإنشاد الديني الجماعي، يُؤدَّى بأسلوب متناغم بين مجموعة من المنشدين، حيث يتناوبون في الأداء وفق أسلوب الرد والتكرار، مما يضفي عليها طابعًا جماليًا مميزًا. تعتمد التواشيح على الأوزان الشعرية والمقامات الموسيقية، وتتناول موضوعات دينية كمدح النبي، والابتهال إلى الله، والتذكير بقيم الإسلام. وتتمتع الابتهالات والتواشيح الدينية بتاريخ طويل ضارب في جذور التراث الإسلامي، حيث نشأت من الحاجة إلى التعبير عن المشاعر الروحانية بأسلوب يعتمد على جمال الصوت وعذوبته، وكانت بداياتها الأولى مرتبطة بتلاوة الأدعية والمناجاة في حلقات الذكر والتجمعات الصوفية، حيث تميزت بأسلوب أقرب إلى الترتيل الذي يحمل طابع الخشوع والتأمل العميق، وتُعَدّ الابتهالات والتواشيح الرمضانية جزءًا أساسيًا من التراث الديني والثقافي العربي المرتبط بالروحانية والتقوى في الثقافة العربية والإسلامية خلال الشهر الكريم، حيث يجتمع المصلون والمنشدون في أجواء رمضانية مشحونة بالإيمان، يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء، مستلهمين من تراثهم الروحاني العريق. في العصور الإسلامية الوسطى، لم تكن الابتهالات والتواشيح قد اتخذت شكلها الحالي، لكنها وُجدت بشكلها الأولي في صورة مناجاة فردية أو جماعية تتخلل حلقات الذكر والتصوف، ومع مرور الزمن بدأ هذ الفن الروحاني يتخذ شكلًا أكثر تنظيمًا ولم تبقَ الابتهالات والتواشيح مجرد أصوات تتردد بين جدران المساجد، بل تحولت إلى فن متكامل، يُؤدى في المناسبات الدينية ويعكس الشوق إلى الله والسمو الروحي، محافظًا على جوهره الأصيل رغم ما طرأ عليه من تطورات لحنية وأدائية، حيث قامت بعض الفرق الصوفية بإضافة بعد موسيقي للأدعية، وتنوع أساليب الأداء وتم الاعتماد على تعدد الأصوات في الأداء الجماعي. ورغم تطور الأشكال الفنية المختلفة، لا تزال الابتهالات والتواشيح تحتفظ بمكانتها، وقد بلغت أوج ازدهارها في العصر الحديث، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما أصبح لها رموز بارزة طوّرت هذا اللون الفني وأضافت إليه طابعًا مميزًا، كما انتقلت الابتهالات من ساحات المساجد إلى فضاءات أوسع، حيث باتت تُبث عبر الإذاعات والتلفزيونات والمنصات الرقمية، مما ساهم في انتشارها عالميًا، دون أن تفقد جوهرها الروحاني أو مكانتها في قلوب المسلمين، وقد شهدت هذه الفترة صعود كبار المبتهلين والمنشدين الذين أبدعوا في أداء الابتهالات بمقامات موسيقية متنوعة، مما أضفى عليها لمسة جمالية جعلتها جزءًا أساسيًا من الأجواء الدينية، لا سيما في شهر رمضان والمناسبات الروحانية الأخرى. روّاد أثروا التاريخ تحتل الابتهالات والتواشيح الدينية في مصر مكانة خاصة في التراث الروحي والثقافي، حيث ازدهر هذا الفن في أجواء المساجد والزوايا الصوفية والمناسبات الدينية، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من وجدان الشعب المصري، خاصة خلال شهر رمضان والمناسبات الدينية المختلفة، وقد أبدعت مصر في تقديم هذا الفن عبر عصورها المختلفة، إذ برز أعلام كبار أثروا الساحة الإنشادية بصوتهم العذب وأدائهم المؤثر، ويعتبر الشيخ سيد النقشبندي أحد أبرز أعلام الابتهال في القرن العشرين، حتى لُقِّب بـ «أستاذ المبتهلين» نظرًا لقوة صوته وجلال أدائه، تميّز بأسلوبه الفريد الذي جمع بين القوة والعذوبة، واستطاع من خلاله أن يضفي على الابتهال روحانية خاصة تأسر القلوب. من أشهر أعماله «مولاي إني ببابك»، الذي أصبح أحد أكثر الابتهالات شهرة وتأثيرًا، إلى جانب أعماله الأخرى مثل «أغيب وذو اللطائف لا يغيب» و»يا رب إن عظمت ذنوبي» و»رب هب لي هدى» و»يا واهب الخير»، والتي لا تزال تتردد في المحافل الدينية حتى اليوم، أما أشهر ابتهالاته عن رمضان فهو «رمضان أهلاً»، حيث تميز بصوته الجهوري المفعم بالخشوع وهو يشدو بهذا الابتهال الذي يعكس فرحة استقبال الشهر الكريم وأجواءه الروحانية، ومن أبرز مقاطع الابتهال: «رمضانُ أهلاً مرحبًا رمضان.. الذكرُ فيكَ يطيبُ والقرآن». أما الشيخ طه الفشني فهو أحد كبار المبتهلين، تميّز بصوته العذب الرخيم وقدرته الفائقة على التحكم بالمقامات، مما جعله من أعمدة هذا الفن، وقد استطاع أن يمزج بين القوة والتعبير الدافئ في أدائه، ليصل بمستمعيه إلى حالة من السكينة والتأمل، ومن أبرز ابتهالاته: «إلهي ليس لي إلاك عون» و»يا أيها المختار» و»كل حسن في البرايا فهو منسوب إليك»، حيث عُرف بأسلوبه الهادئ الذي يخاطب القلوب برقة وإحساس عالٍ، والشيخ نصر الدين طوبار كان أحد أكثر المبتهلين تأثيرًا في النفوس، حيث حمل صوته شجنًا خاصًا جعله قريبًا من القلوب، واستطاع أن يعبر بإحساسه العميق عن معاني الخشوع والتوسل، وتميز بأسلوبه الفريد الذي يجمع بين الرقة والقوة في آن واحد، ومن أبرز أعماله: «رمضان أشرق» و»يا مالك الملك»، و»جلّ المُنادَى» و»يا من ملكت قلوبنا»، و»ليلة القدر»، وقد قدم ما يقرب من 200 ابتهال، أما الشيخ محمد عمران فهو صاحب مدرسة خاصة في الابتهال الديني، حيث جمع بين الإحساس المرهف والإتقان الفني المبهر، ومن أشهر أعماله: «سبحان من عنت الوجوه لوجهه»، و»الله ربي للهدى يهديني»، و»الليل أقبل والوجود سكون»، و»فكم لله من لطف خفي» و» إلهي عبدك الجاني أتاك»، والتي تركت أثرًا خالدًا في ذاكرة محبي الابتهالات. صفاءٌ وسكينة ظلت مصر على مدار عقود قبلة للابتهالات والتواشيح الدينية، إذ أصبحت الإذاعة والتلفزيون المصريين نافذة ذهبية لنشرها، فباتت أصوات المبتهلين والمنشدين تملأ الأرجاء في المناسبات الدينية، لتظل هذه الأعمال خالدة في وجدان الشعب المصري، تروي الأرواح بعذوبتها وتعيد إحياء لحظات الصفاء والسكينة في القلوب، وامتدت الابتهالات والتواشيح إلى دول عربية وإسلامية عديدة، حيث صاغت كل منطقة طابعها الخاص في أداء الابتهالات، مستلهمةً من مخزونها التراثي ومن مدارسها الصوفية والموسيقية. ففي سوريا؛ خاصة في مدينتي حلب ودمشق، ازدهرت تقاليد الابتهالات والتواشيح، اشتهرت حلب بفرق الموشحات والقدود الحلبية، ومن أبرز المبتهلين السوريين الشيخ توفيق المنجد والشيخ حمزة شكور. في المغرب؛ يرتبط فن الابتهالات والتواشيح بالطرق الصوفية، حيث تُقام حلقات الذكر والإنشاد الديني خلال المناسبات الدينية، مثل المولد النبوي وشهر رمضان. أما في اليمن؛ فتُقام مجالس الذكر والإنشاد في المناسبات الدينية، حيث يؤدي المنشدون قصائد المديح النبوي والابتهالات بأسلوب مميز خلال شهر رمضان الفضيل متأثرين بالتراث الإنشادي اليمني، وفي السودان؛ تُعتبر المدائح النبوية جزءًا أساسيًا من الثقافة الدينية، تُؤدى الابتهالات بإيقاعات مميزة خلال المناسبات الدينية والاجتماعية، مثل المولد النبوي وحفلات الزواج وشهر رمضان الفضيل، والأمر ذاته في العراق حيث يمتلك فن الابتهالات والتواشيح مكانة خاصة هناك. تطور وتأثير وجداني شهدت الابتهالات والتواشيح تطورًا كبيرًا مع تغير الأزمنة، إذ انتقلت من الأداء التقليدي في المساجد والساحات إلى الانتشار عبر الإذاعات والتلفزيون، ومن ثم إلى المنصات الرقمية الحديثة، وقد أسهمت هذه الوسائل في إيصال أصوات المبتهلين إلى شرائح واسعة من الجمهور، مما عزز حضورها في وجدان المجتمعات الإسلامية، خاصة خلال شهر رمضان المبارك، ولم يقتصر التطور على وسائل الانتشار فحسب، بل امتد إلى الأسلوب والأداء، حيث بدأ بعض الفنانين المعاصرين في تقديم الابتهالات بأسلوب أكثر حداثة، مع الحفاظ على الطابع الروحي والتأملي، كما ظهر اهتمام متزايد بإعادة توزيع الابتهالات القديمة باستخدام تقنيات صوتية حديثة دون الإخلال بجوهرها الروحاني. تُشكّل الابتهالات جزءًا من الذاكرة الثقافية للمجتمعات الإسلامية، إذ تُسهم في تهذيب النفس وبث الطمأنينة في القلوب، وتعزز القيم الإيمانية كالخشوع والتسامح والمحبة. وبذلك تبقى الابتهالات أحد أهم أشكال التعبير الديني التي تترك أثرًا عميقًا في الوجدان الإسلامي، سواء بصيغها التقليدية أو بأساليبها المعاصرة، وتظل تنتقل من جيل إلى جيل، محافظةً على رونقها وأصالتها، لتظل شاهدة على فيض الرجاء وعذوبة المناجاة.