الحذر من الكَمال
الكمال المنشود.. سرابٌ نلهث خلفه فلا ندركه. لكنه يجب أن يظلّ هكذا.. أن يظلّ سراباً.. وغير مُدرك. *** متى ما شعر الإنسان بأنه وصل لمرحلة الكمال المطلق، فلن يعود قادراً على تقبّل التغيير، ومتى ما أصبح غير قابل للتغيير فقد حانت نهايته. وهكذا تنتهي الحضارات والدول والأفكار والقيم والمجتمعات. إنها العمى الحقيقي.. حين يُغطّي الشعور بالكمال كل دوافع التطوير والتحسين ومواكبة الزمن.. لحظة النهاية الحقيقية لأي شيء، كما قال الشاعر: إذا تمّ أمرٌ بدا نقصُهُ ... ترقّب زوالاً إذا قيل تم *** أسوأ ما يصيب المجتمعات هو ذلك الاعتقاد بوهم الكمال، وأنه ليس بحاجة لنقد ذاته وسلبياته. هذا يعني إيقاف سننية التطور الطبيعي عند هذا المجتمع. وهذا يعني أيضاً نهايته، وبالتالي انهياره. *** ومثل المجتمعات الأفكار والعقائد، فمتى ما شعَرَت بالتفوق على الآخرين، وانغلقت على ذاتها، ورفضت مواكبة الزمن وتحدياته في كل مرحلة، فهي الأخرى تكتب نهايتها وانهيارها. وهذا أيضاً ثمنٌ دائم للاعتقاد بالوصول لبرّ الكمال. *** أوضح الأمثلة، خلاف المجتمعات والأفكار والعقائد والدول، هي الشركات والمؤسسات، فهي الأخرى إنْ أصيبت ببعض الحمقى المعتقدين بعدم الحاجة للتغيير، أو كانوا خائفين منه، أو رافضين له لأي سبب، فهنا انهيار تلك المنظومة، ولنا في كثير من الشركات والماركات التجارية التي تسيّدت العالم خلال القرن العشرين أكبر الدروس وأعظمها في أن الكمال يجب أن يظلّ هاجساً، وألا يسمح للشعور بالنجاح والكمال أن يسيطر على كل الدوافع. *** نأتي إلى مستوى الأفراد، وهنا سنرى العجب العجاب، فبعضهم لمجرد أن له حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي يتابعه فيه الآلاف فقد توهّم أهميته القصوى، وصدّق فعلاً أنه مؤثر مجتمعياً وفكرياً، في حين أن حقيقة ذلك التأثير هي الاعتياش على عناصر حالة التخلف الثقافية التي تصعّدت كمظهر ثقافي مع مواقع التواصل. من أوجع الحقائق التي يجهلها هؤلاء هي: أنه بمقدار ما يكون الصعود سريعاً، وفي غفلة من الزمن وقواعد الحياة التي تتطلب الكفاح في البناء لبنة لبنة، بمقدار ما يكون الهبوط والخسف. كما أن أي شيء يسهل أن يُبنى سريعاً فإن سقوطه وانهياره يكون سريعاً. ولذلك.. فالحذر من أي مجد (كرتوني) سهل التركيب والبناء.. فهو أيضاً سهل الفك والإزالة. *** (اليوم أكملت لكم دينكم) هذه الآية الكريمة لا تعني أن الدين قد توقف عن مواكبة الزمن وتناقضاته، أو المساهمة في هذا العالم الذي أصبح كتلة واحدة متجانسة المصالح والمصير المشترك. إن منطق الاستخلاف في الأرض يفترض أن غاية تلك الآية تندرج تحت غاية الآية: (إني جاعل في الأرض خليفة)؛ ولن يكون هذا المستخلف في الأرض بقادر على أن يقوم بشؤون الأرض والدنيا إنْ توهّم أنه وصل للكمال. فإنْ لم تندرج غاية تلك الآية تحت غاية هذه الآية، أو فهمت كل واحدةٍ منهما في سياق منفصل، فذلك ضربٌ للمقاصد ببعضها، وهدمٌ للغايات بالقفز على منطق تراتبيتها. وهذا تحديداً هو ما سيخلق الفجوة المنطقية في الآيتين معاً في وعي الأجيال. *** الكمال.. مثل الجَمَال.. لا حدود لهما.. بل إنهما يظلان يتسعان أبداً باتساع الكون.